عودة بنات الرياض


هل يكتب الأدب ليُنسى؟

Author

عبير اليوسفي

كأن للكتب أعمارًا تشبه أعمارنا، منها ما يولد وفي فمه صرخة، ومنها ما يولد وفي عينيه نظرة طويلة لا تنتمي لزمن محدد. كنت أفكر مؤخرًا في النصوص التي تُكتب كي تُسمع فورًا وكأنها رسائل مستعجلة إلى مجتمع مرتبك، وكيف أن هذا النوع من الأدب يختفي عادة حين تتغير الشروط التي صنعته. فهناك نصوص تُكتب بنَفَس لاهث، وكأن الكاتب نفسه يخشى فوات اللحظة التي يتكلم فيها، فيلتصق النص بجلد زمنه التصاقًا كاملًا، حتى يبدو كأنه محاولة لالتقاط حرارة اللحظة قبل أن تبرد. والضجيج مهما ارتفع لا يصنع خلودًا لأنه يكشف عن ارتباك اللحظة أكثر مما يكشف عن قوة النص.


تضج الساحة الثقافية على منصة إكس بعودة الحديث عن رواية بنات الرياض مع إعلان الكاتبة نيتها العودة إلى فن الرواية بعد غياب، وكأن النص الذي أحدث ضجة قبل عشرين عاما عاد يطلب منا قراءته من جديد. وما إن ظهر الخبر حتى انقسمت الآراء بين من يرى الرواية تجربة لامست جدارًا اجتماعيًا صلبًا يوم صدرت، وبين من يراها اليوم عملًا خفيف الوزن لا يحمل ما يكفي من فنون الرواية. وسط هذا الانقسام، عادت إلي صورة بنات الرياض بوصفها مثالًا دقيقًا للنصوص التي تُولد من حرارة لحظتها. نص نشأ من رغبة المجتمع في كسر حاجز ما، في مواجهة ما ظل طويلًا مخفيًا خلف لغة اجتماعية محكمة. يوم صدرت الرواية لم تكن القراءة تبحث في جمالياتها، لأنها ركزت في جرأتها على الاقتراب من عالم النساء المغلق. لذا كان السؤال الأهم من كيف كُتبت الرواية؟ إلى: كيف سُمِح لها أن تُكتب؟ وذلك وحده كان كافيًا ليجعلها ابنة زمنها لا ابنة تقاليد الفن.

علاقتي بهذه الرواية بدأت مبكرًا. كنت صغيرة حين وصلت الرواية إلى بيتنا بعد ضجة صدورها، نجحت أختي الكبرى في الحصول على نسخة في وقت كان تداولها مثير للجدل. أتذكر كيف انتقلت بين حقائب رفيقاتها في المدرسة، وكيف كانت تُقرأ خلسة، لأن المجتمع نفسه كان يعيش فضولًا محمومًا تجاه أي نص يطل على غرف النساء وأحاديثهن. كانت الرواية تُعامل كوثيقة اجتماعية، لا كعمل فني. وهذا يفسر أن استقبالها كان قائمًا على الحدث أكثر من الكتابة.


لكن الزمن بخفته القاسية يسحب من النصوص الطاقة التي جاءت من الصدمة فقط. المجتمع تغير، النساء تغيرن، اللغة تغيرت، ومركز الثقل كله انتقل إلى مكان آخر… المكان الذي يسمح لنا اليوم أن نرى العمل كما هو بسيطًا، مباشرًا، محكومًا بسياق اللحظة أكثر من أي رؤية جمالية أو ابتكار لغوي. إذ حين يهدأ الخوف تظهر هشاشة النص الذي صنعته الضجة، ويبدو كأنه كان يختبر حدود المجتمع أكثر مما يختبر حدود الأدب. فالقراءة نفسها فعل زمني؛ ما يُقرأ تحت ضغط اجتماعي لا يُقرأ بالطريقة نفسها حين يتبدل ذلك الضغط. ولذلك كثير من النصوص التي كانت تُسمى جريئة يتكشف أنها كانت جريئة على الواقع، لا على اللغة.

ومع كل هذا، لا يمكن تجاهل أن هناك نصوصًا تُكتب لتفكيك اللحظة. نصوص تأتي من الداخل، من سؤال يسبق الحدث. أعتقد أن هناك فرقًا بين الكتابة التي تنشأ من ضرورة اجتماعية، والكتابة التي تنشأ من ضرورة داخلية. الأولى تُشبه طرق الباب العالي أثناء الفوضى؛ الثانية تشبه كتابة رسالة إلى مجهول لن يصل قريبًا لكنها ستصل.

ولذلك تبقى أعمال محفوظ وغسان وكامو ودوستويفسكي وكافكا وغيرهم ، لأنها كتبت استجابة لقلق الإنسان نفسه. هذه النصوص لا يشيخ معها الزمن، لأنها تخلق زمنها الخاص، زمنًا يُقاس بالقدرة على إيقاظ السؤال في القارئ كلما عاد إليها. إن الأدب الذي يبقى لا يعتمد على شجاعة اللحظة، لأنه يعتمد على شجاعة المعنى؛ الأولى مؤقتة، والثانية طويلة النفس. الأولى تربك المجتمع، والثانية تربك الإنسان وهما مستويان مختلفان تمامًا.

ما الذي يجعل نصًا يعيش وآخر يختفي؟ الأكيد أنه ليس حجم الضجيج، ولا جرأة الموضوع، ولا شهرة الكاتب. ما يبقى هو ما يضيف شيئًا جديدًا إلى وعينا، شيء لا يعرف المجتمع كيف يتعامل معه فورًا. إن النصوص التي تتجاوز لحظتها هي تلك التي تُكتب من أجل مساحة أبعد قليلًا من الزمن، تلك المساحة التي تحدث فيها اللغة نفسها، لا المجتمع والتي تتسع فيها الأسئلة أكثر من الإجابات.


ربما لهذا حين يعود عمل مرتبط بزمنه بعد سنوات طويلة، لا يعود معه أثره الأول. تعود الذكرى فقط لا القيمة ولا الدهشة. وأفكر أن هذا طبيعي؛ لأن ما كان يستفز المجتمع بالأمس، لم يعد يملك القدرة على استفزاز قارئ يعرف اليوم أكثر مما كان يعرف. الأدب الذي يعيش هو الأدب الذي يربي دهشة جديدة لا تنتمي لسياق، والكتب التي تموت هي تلك التي انتهى دورها بمجرد انتهاء اللحظة التي صنعتها.


لست أظن أن الأدب يُكتب كي ينسى. لكنه يُكتب أحيانًا كي يعالج خوفًا اجتماعيًا، وهذا النوع من الخوف لا يحب الاستمرار. ما يبقى بعد كل هذا نصًا أحدث أثرًا. وليس النص الذي صرخ في وجه المجتمع بقدر ماهو النص الذي ترك ندبة صغيرة في قلب القارئ. هكذا فقط ينجو الأدب من زمنه، عندما يصبح قادرًا على خلق زمن جديد داخل كل قارئ يفتحه.


video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

وداعًا أماني فوزي حبشي💔 عبير اليوسفي ١٠ ديسمبر ٢٠٢٥ يعجبني دائمًا كيف ينجح الأدب في تمرير الخرافة دون أن تبدو غريبة. يكفي أن يصف الكاتب مشهدًا غير مألوف حتى أعرف أن القصة تتجه نحو منطقة لم يفسرها الإنسان. تذكرت هذا الشعور أثناء قراءة كتاب مانفيستو القراءة، حين وجدت مقطعًا يشير إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفسر العالم بالحكايات، ويعود إليها كلما احتاج إلى معنى أو ترتيب. تحمل الفكرة تاريخًا طويلًا من علاقة الإنسان بالنصوص، علاقة بدأت قبل الكتابة بزمن حين كان الصوت الوسيلة الأولى لتخزين...

حين يسبق الإنسان الطبيب⚖️ فرانز فانون عبير اليوسفي ٣ ديسمبر ٢٠٢٥ صادفت جملة لفرانز فانون في مقالة كتبها إسكندر حبش في كتابه "ضفاف كثيرة، كتابة واحدة". يقول فيها: «الإنسان يحتاج إلى الحب والمودة والشعر ليعيش.» لتبدو الحاجة الإنسانية كما صاغها أبعد من كونها مشاعر لطيفة ترافق الحياة. إنها جوهر الطريقة التي نحافظ بها على ملامحنا في عالم يجردنا بسهولة من أنفسنا. يعاد ذكر فرانز فانون في معظم الخطابات السياسية بوصفه واحدًا من أكثر منظري التحرر جذرية، وكأن قيمته كامنة في تحليله للعنف الاستعماري. لكن...

هل مرض نومك؟ 😨😴🪄 عبير اليوسفي ١٩ نوفمبر ٢٠٢٥ تبدو اضطرابات النوم في الأعمال الأدبية كأنها اضطرابات في الوعي ذاته. ففي كل مرة لا يعود الإنسان متصلًا بالعالم اتصالًا صحيحًا. وهذا مايثبته كل عمل يحاكي مشاكل اضطرابات النوم. «كيف يقتل الناس أنفسهم وهم مسرنمون؟». قبل أيام، انتهيت من قراءة رواية تحكي عن وباء يتفشى في بلدة خلال ليلة طويلة. حالة من السرنمة وهي حالة المشي أثناء النوم، جعل منها الكاتب الصيني يان ليانكه قلب روايته «يوم ماتت الشمس» لتبدأ حالات الانتحار والقتل وتنتشر الفوضى. قدم الكاتب...