هل مرض نومك؟ 😨😴🪄
عبير اليوسفي
١٩ نوفمبر ٢٠٢٥
تبدو اضطرابات النوم في الأعمال الأدبية كأنها اضطرابات في الوعي ذاته. ففي كل مرة لا يعود الإنسان متصلًا بالعالم اتصالًا صحيحًا. وهذا مايثبته كل عمل يحاكي مشاكل اضطرابات النوم.
«كيف يقتل الناس أنفسهم وهم مسرنمون؟».
قبل أيام، انتهيت من قراءة رواية تحكي عن وباء يتفشى في بلدة خلال ليلة طويلة. حالة من السرنمة وهي حالة المشي أثناء النوم، جعل منها الكاتب الصيني يان ليانكه قلب روايته «يوم ماتت الشمس» لتبدأ حالات الانتحار والقتل وتنتشر الفوضى.
قدم الكاتب تفسيرًا نفسيًا لافتًا لمفردة السرنمة حين قال إن «السرنمة ليست سوى الأفكار التي لا تهدأ داخلنا، تواصل سيرها حين ينام الجسد».
قرأتها وأنا أتذكر ماكوندو، حين أصيبت بوباء الأرق في مئة عام من العزلة. لم يعد أهلها ينامون، ثم لم يعودوا يتذكرون، فبدؤوا يكتبون أسماء الأشياء لئلا تضيع معانيها مثل: هذه بقرة يجب حلبها كل صباح. أصبح الأرق استعارةً لفقدان الذاكرة الجماعية، لانفصال الإنسان عن جذره الزمني، عن قدرته على التعرف إلى العالم. تفقد ماكوندو ذاكرتها، وتفقد القرية يقظتها.
كان النوم في الأدب مساحة للتشويش، لتسرب اللاوعي إلى السطح. هو زمن آخر موازٍ للحياة، يتيح للأفكار المقموعة أن تتحرك وتتكلم. فيصبح النوم بوابةً رمزية للعبور إلى اللامرئي، تلك المنطقة التي لا يجرؤ الوعي على مواجهتها. يبلغ هذا التوتر ذروته في الفلسفة حين يصبح النوم حدودًا للوعي نفسه، نيتشه مثلًا كان يرى أن الوعي خطأ الطبيعة الأكبر لأنه كشف هشاشة الإنسان وجعله يدرك فناءه. لهذا حين يختل النوم يختل الجسد وتتسرب يقظة مؤلمة لا يستطيع العقل احتمالها.
في قصة هاروكي موراكامي «نعاس»، تعاني امرأة الأرق لأن النوم قد تخلى عنها. تبلغنا في افتتاحية الرواية أنه مضت سبعة عشر ليلة لم تنم فيها، تعيش يومها في رتابة لكنها حين يحل الليل تكتشف يقظة مريعة. لا شيء يتغير في ظاهر حياتها، إلا أن كل شيء ينهار في داخلها. تعيش في فائض من الوعي، في منطقة ما بين الحلم واليقظة، حيث تتحول الحياة اليومية إلى مشهدٍ عبثي. كان أرقها وعيًا زائدًا عن الحد، يقظة ضد النوم الجمعي الذي يوفر للناس سلامهم مع العدم.
كثير من الأدباء جعلوا من النوم وسيلة للهروب من هذا الوعي الثقيل. عند كافكا مثلًا، يظهر النوم كحدٍّ هش بين الإنسان وكابوس وجوده. يستيقظ بطله غريغور سامسا من أحلامٍ مزعجة ليجد نفسه حشرة. لا نعرف إن كان الحلم انتهى أم بدأ، لأن الأدب يجعل من الاستيقاظ نفسه فعلًا مرعبًا. وقد يكون النوم ليس مهربًا من الواقع، لربما هو الواقع الحقيقي، فيما اليقظة هي الكابوس الذي لا ينتهي. هكذا يصبح اختلال النوم لدى كافكا صورة للاغتراب، كائن لا يثق بحدود الوعي، يعيش بين حالتين لا يمكن تمييزهما.
تتأرجح رمزية النوم بين قطبين متناقضين، الأول النوم كمهرب من وعيٍ لا يُحتمل. والثاني النوم كيقظة داخلية، كنافذةٍ على الداخل. بين هذين القطبين يتحرك الأدب، يحاول أن يوازن بين حاجتنا إلى الوهم وحاجتنا إلى الفهم. فحين يهرب الإنسان إلى النوم، إنما يحاول أن ينجو من ضجيج الوعي. وحين يستيقظ من نومه الداخلي، يكتشف أنه لم يكن يومًا مستيقظًا حقًا.
هذه المفارقة هي ما تجعل النوم في الأعمال الروائية أشبه بمرآة وجودية، كل اضطرابٍ فيه يشير إلى خلل في علاقة الإنسان بذاته. فالأرق غياب للطمأنينة. والسرنمة وعيٌ يمشي وحده في الظلام. كما فعلت شخصيات رواية يوم ماتت الشمس، إذ كانت تقوم بأعمال لا تجرؤ على فعلها في الصحو، كما فعل العجوز حين قتل عشيق زوجته وهو في حالة سرنمة لأنه لم يجرؤ على فعلها وهو مستيقظ.
يكتب الأدب عن النوم بوصفه استعارة كبرى للحدود التي تفصلنا عن أنفسنا. الأحلام، الأرق، الغيبوبة. تلك الحالات التي تفتن الأدباء هي محاولات لتصوير كيف يتصدع الإدراك حين يواجه ذاته. وحين يختل هذا التوازن، يرفض الجسد الخضوع لدورته، يصبح النوم خطابًا ميتافيزيقيًا يعبر عن جوع الإنسان إلى الغياب كي يفهم حضوره.
وقد يكون الوجه المظلم للفكر، والمسرح الذي تُعرض عليه تجاربنا المكبوتة. وحين يمرض النوم، تتكشف الحقيقة التي يهرب منها الإنسان في النهار أن وعيه ليس سوى يقظة مؤقتة داخل حلمٍ طويل.