حين يسبق الإنسان الطبيب⚖️
عبير اليوسفي
٣ ديسمبر ٢٠٢٥
صادفت جملة لفرانز فانون في مقالة كتبها إسكندر حبش في كتابه "ضفاف كثيرة، كتابة واحدة". يقول فيها: «الإنسان يحتاج إلى الحب والمودة والشعر ليعيش.» لتبدو الحاجة الإنسانية كما صاغها أبعد من كونها مشاعر لطيفة ترافق الحياة. إنها جوهر الطريقة التي نحافظ بها على ملامحنا في عالم يجردنا بسهولة من أنفسنا.
يعاد ذكر فرانز فانون في معظم الخطابات السياسية بوصفه واحدًا من أكثر منظري التحرر جذرية، وكأن قيمته كامنة في تحليله للعنف الاستعماري. لكن الاقتراب الحقيقي من تجربته يكشف مشروعًا لا ينطلق من السياسة فقط، لكن من هشاشة الإنسان. ورغم أنه لم يكن معنيًا بتغيير الأنظمة، لكنه كان مشغولًا بما تتركه تلك الأنظمة من خلل دقيق يجعل الإنسان يشك في قيمته، ويتعامل مع ذاته كما لو كانت ظلٌّ متراجع خلف سلطة تخلع عنه ملامحه.
عرفت فرانز فانون من كتابه الشهير معذبو الأرض قبل عشرة أعوام، كان حينها يتداول اسمه بشكل واسع في المشهد الثقافي. وهو لمن لم يقرأه، وُلد في المارتينيك، درس الطب النفسي في فرنسا، وعرف منذ بداياته أن النظريات العلمية في زمنه كانت تحمل تحيزًا ضد الشعوب المستعمَرة. كان يشعر أن كثيرًا من ما تقدمه العلوم النفسية يخدم فكرة واحدة وهي أن المستعمَر أقل عقلانية، أقل وعيًا، أقل كفاءة. وحين حاول في أطروحته أن يفسر الدونية بوصفها نتيجة للاستعمار وليس طبيعة في الإنسان الأسود، رُفضت نظريته واتُّهمت بالهدم. ومع ذلك ظل متمسكًا بالفكرة في كتاباته.
كان يدرك أن الاستعمار علاقة مَرَضية تصوغ للإنسان صورة لا تشبهه، تدفعه إلى استيعاب دونيته، ثم تمنحه خطابًا نفسيًا يفسر ضعفه كطبيعة أصلية. ولهذا لم تحتمل الجامعة الفرنسية أطروحته حول “الاستلاب النفسي للمستعمَر”، لأنها كانت تقول ببساطة إن المرض ليس في الشخص، لكنها في البنية التي تصنعه. تنازل فانون عن نظريته آنذاك ليكمل دراسته، غير أنه لم يتخل عن جوهرها؛ وظل ينتقل بها إلى كل مكان باعتبارها معيارًا لفهم ما يحدث للإنسان حين تُنتزع منه صورته.
تتضح قيمة هذا المعيار حين يصل إلى الجزائر. حين رأى في مستشفى البليدة بشرًا تُركوا دون لغة ودون مجال لظهور ذواتهم. كان المكان محكومًا بنظام عقابي أقرب إلى السجن منه إلى العلاج، وبدلًا من التركيز على الأعراض، بدأ فانون بتحرير البنية نفسها فقد ألغى الأبواب المغلقة، أنشأ ديناميات جماعية، أدخل الصحيفة الداخلية، وأعاد للمرضى إمكانية عيش تفاصيل صغيرة تشعرهم أن الحياة تستحق البقاء. قد تبدو هذه الإجراءات بسيطة لكنها كانت بالنسبة له تأسيسًا ضروريًا لحماية ما تبقى من الإنسان في ظروف سياسية خانقة.
غير أن ما فعله تجاه النساء كان أكثر أهمية من أي خطوة أخرى. لاحظ غياب المرايا في أجنحة النساء. قد يبدو الأمر تفصيلًا هامشيًا، لكنه كان يرى فيه العلامة الأكثر وضوحًا على انهيار الذات تحت ثقل الاستعمار. المرأة التي تُمنع من رؤية وجهها تُمنع من امتلاك صورتها، من تثبيت وجودها، من الاعتراف بأن لملامحها وزنًا في العالم. لذا كانت المرايا اعادة النسق الداخلي الذي يجعل الإنسان قادرًا على النظر إلى نفسه دون خوف أو خجل أو تلاشي.
هذه اللفتة على بساطتها الظاهرة، تكشف عن طبيعة فانون أنه كان يفكر في الإنسان قبل أن يفكر في الثورة، وقبل أي خطاب سياسي. لذلك تصبح جملته: «الإنسان يحتاج إلى الحب والمودة والشعر ليعيش» بوصلة معرفية لفهم مشروعه كله.
في سيرته يبدو الإنسان سابقًا على الطبيب، كان يرى التحرر حركة تبدأ في الداخل، حين يستعيد الفرد قدرته على أن يرى نفسه كاملًا، لا مكسورًا تحت خطاب يفسر وجوده كخطأ. ولهذا كتب عن السياسة وهو يستند إلى الطب النفسي، وكتب عن الطب النفسي وهو مشغول بترميم أثر العنف، ثم كتب عن التحرر بوصفه إعادة توزيع للضوء على الوجوه التي شوهها القمع.
ربما لهذا أحبه العالم الثالث، ولهذا أحبته الجزائر تحديدًا. رأى فيهم بشرًا يحتاجون أن تُعاد إليهم صورتهم، وأن تُمنح إنسانيتهم حقها في الظهور.
•توصية قراءة 📖 :
اعتاد القرّاء أن يتعاملوا مع معذبو الأرض بوصفه مرجعًا في العنف الثوري، لأنه يشرح كيف يتحول الإنسان المستعمَر إلى ذات ممزقة لا تُستعاد إلا عبر فعل مضاد يعيد توزيع القوة. لكن قراءة فانون لا تُختزل في تبرير العنف، فهو لم يكن يكتب عن الدم بوصفه خلاصًا، كان يحلل آلية أكثر تعقيدًا وهي كيف يُنتج القمع فراغًا داخليًا يجعل الإنسان يشعر أنه غريب عن نفسه، ثم كيف يتحول هذا الفراغ إلى طاقة سياسية.
كان يرى أن الاستعمار لا يترك الناس فقراء فقط، بل أيضًا يقتل فيهم القدرة على تسمية الأشياء وعلى الإحساس بجدارة الوجود. لذلك كان العنف المضاد وسيلة لإعادة بناء الذات التي سُحقت طويلًا.
الكتاب يصر على فكرة واحدة وهي أن التحرر لا يبدأ حين يخرج المستعمِر، لكنه يبدأ حين ينهض الفرد من تحت الركام الداخلي الذي خلفه وجوده.
ويتوزع بين تشريح نفسي مفصل لحالات الانكسار، وبين تحليل دقيق لطبيعة العالم المنقسم الذي يخلقه الاستعمار. عالمٌ للمستعمِر محكوم بالنظام والامتياز، وعالمٌ للمستعمَر محكوم بالحرمان والحدود. هذا الانقسام في رأيه لا يُشفى إلا بعملية طويلة تستعيد فيها الشعوب ثقتها بأنفسها وبحقها في أن تكون موضوعًا لا مادة.
وربما كثير من القرّاء ظنوا أنه يعلم الثوار كيف يقاتلون، بينما هو في الحقيقة يعلمهم كيف يتعافون. ولهذا بقي معذبو الأرض متداولًا بعد عقود ليس لأنه يصف الاستعمار كمأساة تاريخية، لكن لأنه يصف أثره على الإنسان الذي يحاول إعادة ترتيب نفسه بعد تجربة طويلة من الإلغاء.