وداعًا أماني فوزي حبشي💔
عبير اليوسفي
١٠ ديسمبر ٢٠٢٥
يعجبني دائمًا كيف ينجح الأدب في تمرير الخرافة دون أن تبدو غريبة. يكفي أن يصف الكاتب مشهدًا غير مألوف حتى أعرف أن القصة تتجه نحو منطقة لم يفسرها الإنسان. تذكرت هذا الشعور أثناء قراءة كتاب مانفيستو القراءة، حين وجدت مقطعًا يشير إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفسر العالم بالحكايات، ويعود إليها كلما احتاج إلى معنى أو ترتيب. تحمل الفكرة تاريخًا طويلًا من علاقة الإنسان بالنصوص، علاقة بدأت قبل الكتابة بزمن حين كان الصوت الوسيلة الأولى لتخزين المعرفة ونقل التجربة.
تذكرت بودكاست لفادي أبو ديب استمعت إليه قبل فترة، يناقش الخرافة بوصفها المحاولة الأولى لتنظيم قلق الإنسان. كانت الخرافة بحسب الطرح، أكثر من مجرد استجابة للجهل؛ فهي شكل مبكر من التنظيم الرمزي، محاولة لصياغة تهديد مستمر في هيئة قصة، تمنحه بداية ونهاية وشخصيات يمكن فهمها. الإنسان القديم واجه عالمًا غير قابل للتوقع ظواهر طبيعية قاسية، مواسم متبدلة، موت مفاجئ، وحياة تعتمد على الصيد والتنقل. في غياب التفسير العلمي، لجأ إلى بناء نظام من القصص ليضع المجهول ضمن إطار يمكن التعامل معه ونقله للأجيال. لذا لم تكن الخرافة ترفًا أو تسلية، وإنما وسيلة لإعادة ضبط العالم.
ولم تقتصر هذه القصص على تفسير الطبيعة، تناولت أيضا حياة الإنسان نفسها. كل حدث حتى البسيط منه كان يُنسج داخل قصة تكون ذاكرة مشتركة للجماعة. يرى بعض المفكرين أن الخرافة تحمل بقايا رموز تشكلت قبل الوعي الفردي، بينما اعتبر آخرون أنها انعكاس لرغبات ومخاوف دفينة. بين هذين الاتجاهين، بقيت الخرافة بنية أولى للسرد، نقطة انطلاق تحول معها الحكي من وسيلة حماية إلى شكل من أشكال الفهم.
ومع مرور الزمن اتحد الخيال باللغة، ليصبح السرد فعلًا أكثر تركيبًا، قادرًا على نقل الحكمة والعبرة، وتسهيل التواصل الاجتماعي، وتقديم المتعة والترفيه. تطور السرد عبر مراحل متعددة من الخرافة إلى الملحمة، ومن الأسطورة إلى الحكاية الشعبية، ثم إلى الرواية والمسرح والكتابة الحديثة. ومع كل تحول حافظ على وظيفته الأساسية وهي نقل التجربة الإنسانية من نطاقها الفردي إلى إطار أوسع.
مع ظهور الكتابة، انتقلت الحكاية من الذاكرة الشفوية إلى الصفحة. هذا الانتقال غير طبيعة التجربة نفسها. ما كان جزءًا من الطقوس الجماعية أصبح مادة تُقرأ في عزلة، وما كان مرتبطًا بالتعليم الأخلاقي أو الروحي أصبح مجالًا للتجريب الفني. رغم هذا بقيت آثار الخرافة حاضرة في أي بنية سردية، وجود حدث رئيس، خط تصاعدي، عقدة، ونهاية. حتى الأدب المعاصر مع تحرره من قواعد كثيرة، لا يزال يحتفظ بهيكل بدأ معه الإنسان أولى خطواته في السرد.
يمكن اعتبار الخرافة الحكاية الأولى، لكنها ليست نهايتها. هي الجذر الذي انبثقت منه كل أشكال السرد اللاحقة، من القصص الشعبية إلى الرواية الحديثة. وفيها نستطيع تتبع فكرة الأصل، نقطة تقاطع بين الخوف والمعرفة، بينما تمثل الحكاية في معناها الأوسع توسعًا في وظيفة السرد، وانتقالًا من تفسير العالم إلى تمثيله. فالخرافة تشتغل على القوى الخارقة وتفسر العالم عبر عوالم مقدسة أو كائنات خارجة عن الطبيعة، أما الحكاية الحديثة فتعود إلى الإنسان، إلى تفاصيل حياته اليومية، وإلى بنيته الاجتماعية. تقدم الخرافة العالم عبر الرمزية الكونية، بينما تعتمد الحكاية على التجربة الواقعية الفردية أو الجماعية.
أثناء قراءة مانيفيستو القراءة، بدا واضحًا لي كيف تكمل الحكاية والخرافة بعضهما، الأولى وسيلة للفهم والترتيب، والثانية صيغة أولى استخدمها الإنسان في مواجهة عالم لم يكن جاهزًا لتقديم أجوبة مباشرة. اتسعت الحكاية عبر القرون، وتخلصت من عناصر كثيرة حملتها الخرافة، لكنها احتفظت بإرثها الأول. هما مرحلتان في سلسلة تطور واحدة؛ أحداهما أسست البنية، والأخرى وسعتها. هذا الامتداد الطويل يظل السرد أداة الإنسان الأكثر ثباتًا في فهم العالم، منذ أول قصة رُويت حول نار بدائية، وحتى الكتب التي نقرأها اليوم.
وداعاً أماني فوزي حبشي 💔
بعض الأخبار تفرض لغتها علينا دون استئذان. فالموت لا يفجعنا فقط حين يأخذ كاتبًا نحبه، أيضًا حين يخطف الذين حملوا إلينا أصوات الكتّاب وأعادوا بناء عوالمهم بلغتنا. يغيب المترجم مرتين، مرة حين يرحل جسده، ومرة حين ندرك أن لغة كاملة كانت تعبر من خلاله ستتوقف فجأة، وكأن الجسر الذي يصل بين عالمين سقط حجره الأخير.
لم أكن أنوي الكتابة عن الفقد، لكن خبر وفاة المترجمة التي عرفنا صوتها عبر الكتب وصلني كما يصل حجر إلى سطح بئر هادئة، يخلخل الصمت ثم يستقر في العمق. وحين نفقد مترجمًا يظهر الحزن في ذلك الفراغ الصامت الذي يليه. فراغ يشبه انطفاء مساحة كانت ترافق القراءة، كأن ضوءًا صغيرًا كان في زاوية الصفحة انطفأ دون إعلان.
كانت أماني واحدة من المترجمين الذين أحببتهم وأثق بأني سأحظى بتجربة قراءة فريدة معهم ما أن ألمح اسمها على الغلاف. واحدة من الذين يعملون بهدوء بعيدًا عن الاستعراض، تخلق مساحة ثالثة بين النص الأصلي والقارئ، امتلكت حساسية نادرة تجاه الجملة؛ حساسية تجعل القارئ يشعر أن النص وُلد بلغته. فالقيمة الحقيقية للمترجم تظهر عندما يغيب أثرُه ويظهر أثر النص، وهذا ما أتقنته.
قدمت عبر لغتها العديد من الأصوات الإيطالية التي ما كان للقارئ العربي أن يعرفها لولاها. جعلت الطريق بين اللغتين معبرًا سلسًا لا يشعر معه القارئ ببذل أو افتعال. ولهذا حين يموت مترجم لا نرثي شخصًا فقط، نرثي إمكانًا كان يمكن أن يوجد ولم يوجد. نرثي الكتب التي لن تُترجم، والجمل التي كانت ستولد، واللمسة التي تبدل مسار نص كامل بمجرد اختيار كلمة واحدة.
تقول عن الترجمة: «ربما لا يرى القارئ من الترجمة سوى القشرة الخارجية، ويظن أن المسألة تكمن فقط في إجادة لغتين. ولكن الترجمة تحتاج أيضا إلى قدرة شخصية على التفاعل مع النص، والإنشغال به. فالمترجم لا يتعامل مع نص جامد يرغب في نقله، ولكنه يتعامل مع مشاعر مؤلفه وإبداعه.»، وتصفها كما لو كانت علاقة طويلة مع كتاب لا يريد أن يولد مرتين بالطريقة نفسها. عن مسؤولية خلق نقطة التقاء بين لغتين، وعن كون الترجمة فعل إنقاذ للنص من محدوديته، ودفعه نحو أفق أبعد يستطيع القارئ العربي الوصول إليه.
أتذكر سامي الدروبي، المترجم السوري الذي أخلص لدوستويفسكي حتى آخر نَفَس، وترك مشروعه العظيم غير مكتمل. مَن يقرأ اليوم “الإخوة كارامازوف” أو “الأبله” يعرف أن ما فقدناه بغيابه هي رؤية كاملة كانت تربط العربية بالروح الروسية. يشبه الأمر فقدان قبطان يعرف وحده الطريق ورغم بقاء السفينة طافية، إلا أنها تفقد الاتجاه الذي لم يعد أحد يجيده كما كان يجيده.
خسارة طريقة في فهم العالم. نقرأ أدب العالم بلغتنا، وننسى أن هذه اللغة الثانية لم تكن لتوجد لولا شخص عاش أعوامًا بين الكتب كي يمنحنا نصًا أقرب إلينا. المترجم عقلٌ وذائقة وسيرة، وكل ترجمة جزء من حياته مهما اختفى اسمه في الهامش.
ولا أحد يملأ مكان مترجمٍ يغيب. قد يأتي مترجمون موهوبون، لكن العلاقة التي يصنعها القارئ مع يدٍ بعينها، مع نبرة خاصة وذوق خاص لا تُستبدل. وكل قارئ يكتشف هذه الخسارة حين يعثر على اسم آخر في غلاف كتاب كان يتمنى لو عبر من خلالها. الحزن الخافت الذي لا يقال، لكنه يظهر في مقارنة صامتة بين ما كان يمكن أن يكون وما أصبح عليه.
رحيل أماني تذكير بأن الترجمة ليست هامشًا في الأدب، وأن من يقف خلف النص حياة كاملة تعمل بصمت كي نجد نحن الكلمات جاهزة بين أيدينا. تذكير بأن هناك حساسيات لغوية ومسارات في العمل لا تتكرر مرتين.
يبقى أثرها معنا في الكتب التي مرت عبرها، وفي تلك الجسور الخفية التي بنتها بيننا وبين عالم بعيد. أثر لا يعلو صوته لكنه يبقى جزءًا من تاريخ القراءة، من تلك اللحظات التي شعرنا فيها أن اللغة تستطيع دائمًا أن تُولد من جديد.