كيف يمرّ الزيف إلى القارئ؟


عن فضيحة النشر الوهمي ⚡️😱

Author

عبير اليوسفي

خلال الأيام الماضية، أُثير جدل واسع حول دار نشر عراقية بعد اتهامات وُجهت إليها بنشر كتب تحمل أسماء مؤلفين ومترجمين لا وجود لهم، وتقديم نصوص بوصفها ترجمات أو دراسات تاريخية وفكرية، من دون أن يكون لها أي أصل يمكن التحقق منه. لم تتوقف القضية عند حدود الاتهام، إذ أعلنت الدار لاحقًا إقرارها بأن هذه الإصدارات كُتبت من شخص واحد استخدم أسماء وهمية، ثم اختارت الانسحاب وإقفال دار النشر نهائيًا.

هذه الكتب عناوين طُبعت وعُرضت وقُرئت، وربما استُشهد بها قبل أن يُكشف زيفها. وما يجعل القضية أبعد من خطأ مهني أو خلل عابر، هو أنها مرت عبر قنوات النشر المعتادة، مستفيدة من الثقة التي يمنحها القارئ تلقائيًا للكتاب، للاسم، ولدار النشر.

غير أن ما يستحق التوقف عنده ليس مصير دار أغلقت أبوابها، وإنما السؤال الذي تركته خلفها كيف يمكن للزيف أن يمر كل هذا الطريق من دون أن يُكتشف؟ وماذا يعني ذلك لعلاقتنا بالقراءة نفسها؟

منذ لحظة ظهور الكتابة، رافقها التزييف. كلما وُجد نص يمنح سلطة وُجد من يحاول استعارة تلك السلطة أو انتحالها أو تزويرها. في العصور القديمة، نُسبت نصوص إلى أسماء أكبر منها، لأن الاسم كان يمنح النص حياة أطول. كتب دينية وفلسفية كثيرة حملت أسماء لم تكتبها، في ما عُرف لاحقًا بالكتابة المنحولة. كان القارئ يثق بالاسم، ويعبر عبره إلى النص، وكانت الفكرة أن الحقيقة أسمى من هوية الكاتب. مع ذلك ترك هذا التقليد أثرًا طويلًا في تشويش مفهوم النسبة والملكية، وأرسى علاقة ملتبسة بين النص وصاحبه.

في العصور الوسطى، اتخذ التزييف شكلًا أكثر مكرًا. مخطوطات مزورة، تواريخ مخترعة، ورسائل سياسية تُنسب إلى قديسين أو ملوك لتبرير سلطة أو دعم عقيدة. هنا لم تعد الكتابة حاملة معرفة فقط، وإنما أداة حكم وتدخلًا مباشرًا في تشكيل الواقع.

مع نشوء الطباعة تبدل المشهد. صار للكتاب شكل نهائي، وغلاف، ودار نشر، واسم مؤلف. هذه العناصر التي نراها اليوم ضمانات للصدق، كانت في بداياتها أدوات جديدة للتلاعب. ظهرت كتب بأسماء وهمية، وسير ذاتية مختلقة، ومذكرات لم تُكتب، وفضائح أدبية كشفت أن القارئ يميل إلى تصديق القصة أكثر من التحقق من أصلها.

في القرن العشرين، ارتدى التزييف أقنعة أكثر ذكاء. لم يعد الأمر يقتصر على اختراع مؤلف، وإنما على اختراع تجربة كاملة. مذكرات ناجين لم يعيشوا ما كتبوه، سير شخصية صُنعت لتناسب ذائقة السوق. القارئ صار يبحث عن الحقيقة في النص، والنص تعلم كيف يتقمصها.

اليوم، مع النصوص المولدة والكتب التي تُنتج بكثافة، عاد التزييف إلى نقطة أكثر خطورة. لم يعد يحتاج إلى موهبة عالية أو جهد طويل. يمكن اختراع كتاب كامل باسم كامل، وسيرة كاملة، خلال ساعات. المشكلة هنا في هشاشة البنية الثقافية التي تستقبل هذا الإنتاج من دون مساءلة كافية.

أثناء قراءتي اعتدت أن أتتبع بعض ما يمر في الكتب من معلومات أو إشارات جانبية، بدافع الفضول أكثر من الشك. أبحث عن اسم كاتب، أفتش عن سياق. في إحدى المرات، توقفت عند معلومة تتحدث عن تاريخ الطعام اليمني وردت في كتاب ذُكر بوصفه مصدرًا. حاولت أن أجد لها أثرًا، مرجعًا، أو حتى اسم الكتاب المذكور، ولم أجد شيئًا. راسلت الكاتب عبر صفحته، وسألته عن المصدر. بعد حديث انتبه هو نفسه إلى أن المعلومة مأخوذة من مصدر غير موثوق، وأن الكتاب الذي أُحيل إليه لا وجود له أصلًا. لم يكن في الأمر سوء نية، كان خطأً اعترف به وتداركه.

حين وضعت هذه الواقعة الصغيرة إلى جانب ما كُشف عن دار النشر، خرج منها استفهام كبير عن متى يمنح القارئ ثقته؟

القارئ في الغالب لا يتحقق ليس كسلًا بالضرورة، وإنما لأن القراءة تقوم على افتراض حسن النية. الغلاف، اسم الدار، السيرة المختصرة للمؤلف، كلها عناصر تبني سلطة صامتة للنص. حين تكون هذه السلطة زائفة، تتحول القراءة إلى عملية تلقي لمعلومة غير مختبرة، تتسلل بهدوء إلى الوعي، وتستقر فيه بوصفها معرفة.

تكمن الخطورة في المعلومة الخاطئة وفي الاطمئنان الذي ترافقه. فالقارئ لا يشعر أنه خُدع، ولا يخرج من الكتاب مرتابًا، بل أكثر ثقة بما قرأه، مستعدًا لتكراره، لبناء رأي عليه، وربما للدفاع عنه.

تعد هذه الفضيحة أو القضية إساءة إلى مهنة النشر. لأن الأمر أصبح تزييف مؤسسي صُنع بأسماء مختلقة ونصوص قُدمت بوصفها معرفة. لكن الاعتراف المتأخر وإقفال الدار لا يلغي أن هذه الكتب قُرئت وتداولت، ودخلت في وعي قُراء لم يخطر ببالهم أن ما بين أيديهم وهمٌ متقن الصياغة.


تقوم القراءة على عقد غير مكتوب، أن يمنح القارئ وقته واهتمامه، وأن يمنحه الكتاب معرفة صادقة أو تجربة إنسانية قابلة للتأمل. حين يتصدع هذا العقد لا يتوقف القارئ عند كتاب واحد، وإنما يعيد النظر في علاقته بالكتب كلها. بعض القراء يتحولون إلى متحققين شرسين، وبعضهم ينسحب بهدوء، وبعضهم يتعامل مع النصوص بوصفها محتوى عابرًا لا يستحق المساءلة.

ربما لا يكون الحل في مزيد من الرقابة، ولا في تحميل القارئ عبئًا يفوق طاقته. ما يحتاجه هو استعادة معنى القراءة بوصفها علاقة مسؤولة، تقوم على السؤال، وعلى التريث، وعلى الاعتراف بأن المعرفة ليست معطى جاهزًا، وإنما بناء هش يتطلب انتباهًا دائمًا. لأن أخطر ما يمكن أن يصيب القارئ هو الاطمئنان إلى معرفة لم تُختبر.


ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

معضلة سالنجر وسيمون🧐 سيمون بوفوار عبير اليوسفي ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥ لسيمون بوفوار عبارة تقول: «إننا نسعى في غالب الأحيان إلى تحقيق كينونتنا دونما عون، أسير في الريف، أقطف زهرة، أركل حصاة. أفعل هذا كله، دونما شاهد، ولكن ما من أحد يرضى حياته كلها بمثل هذه العزلة. فما أن تنتهي نزهتي، حتى أشعر بالحاجة إلى أن أقصّها على صديق». تمثل عبارتها تلخيص هادئ لمعنى الوجود المشترك. فالإنسان حتى حين يعيش لحظته وحده، لا يختبرها بوصفها مكتفية بذاتها. التجربة الفردية تحدث فعلًا في غياب الآخر، لكنها لا تكتمل إلا عندما...

وداعًا أماني فوزي حبشي💔 عبير اليوسفي ١٠ ديسمبر ٢٠٢٥ يعجبني دائمًا كيف ينجح الأدب في تمرير الخرافة دون أن تبدو غريبة. يكفي أن يصف الكاتب مشهدًا غير مألوف حتى أعرف أن القصة تتجه نحو منطقة لم يفسرها الإنسان. تذكرت هذا الشعور أثناء قراءة كتاب مانفيستو القراءة، حين وجدت مقطعًا يشير إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفسر العالم بالحكايات، ويعود إليها كلما احتاج إلى معنى أو ترتيب. تحمل الفكرة تاريخًا طويلًا من علاقة الإنسان بالنصوص، علاقة بدأت قبل الكتابة بزمن حين كان الصوت الوسيلة الأولى لتخزين...

حين يسبق الإنسان الطبيب⚖️ فرانز فانون عبير اليوسفي ٣ ديسمبر ٢٠٢٥ صادفت جملة لفرانز فانون في مقالة كتبها إسكندر حبش في كتابه "ضفاف كثيرة، كتابة واحدة". يقول فيها: «الإنسان يحتاج إلى الحب والمودة والشعر ليعيش.» لتبدو الحاجة الإنسانية كما صاغها أبعد من كونها مشاعر لطيفة ترافق الحياة. إنها جوهر الطريقة التي نحافظ بها على ملامحنا في عالم يجردنا بسهولة من أنفسنا. يعاد ذكر فرانز فانون في معظم الخطابات السياسية بوصفه واحدًا من أكثر منظري التحرر جذرية، وكأن قيمته كامنة في تحليله للعنف الاستعماري. لكن...