ترند الكتب وسؤال الهوية


عشرة كتب لا تكفي 📚😱

Author

عبير اليوسفي

مؤخرًا انتشر على منصة إكس ترند يحمل تغريدة تقول:«عرف نفسك بعشرة كتب». للوهلة الأولى يبدو الأمر لعبة عابرة أو تمرينًا على التذكر، لكنه يخفي ما هو أهم من ذلك. كدت أشارك فيه، لولا أن الحيرة أوقفتني: كيف يمكن أن أختزل ذاتي القرائية في عشرة كتب؟ كيف أحصر أثر ما قرأته، وما غير فيّ، والنفس ليست ثابتة أصلًا؟

يبدو وكأننا نحاول رسم ملامح وجهٍ يتبدل باستمرار، لا يستقر على ملامح واحدة. فالقراءة نفسها ليست فعلاً خطيًا، هي تراكم متشابك من لحظات، وحوارات، وصدمات فكرية، وانفعالات لم نعد نذكرها بوضوح، لكنها ما تزال تسكننا. نُعاد تشكيلنا عبر القراءة، ثم نعيد تشكيلها نحن بقراءاتنا اللاحقة.

بالعودة إلى حسابي على Goodreads للاستعانة في تذكر ماقرأته. تنبهت في هذه اللحظة أن الكتب التي أحببتها في العشرين لم تعد تعني لي شيئًا في الثلاثين، وأن بعض العناوين التي كنت أستثقلها قد صارت اليوم أقرب إليّ. والأكيد أن الذائقة القرائية كائن حي ينمو معنا، يتأثر بخساراتنا، بعلاقاتنا، بالمدن التي مررنا بها، وبالكتب التي لم نقرأها بعد.

يعيش الأدب نفسه مراحل النضج والتمرد والخلاص كما يعيشها الإنسان. حتى الأدباء الكبار يتبدلون في ذائقتهم، وفي علاقتهم بالقراءة والكتابة. تجاربهم تكشف كيف يتقاطع المسار الشخصي مع الأدبي، وكيف تتحول القراءة إلى شكل من أشكال النضج، أو التمرد، أو الخلاص.

خورخي لويس بورخيس مثالٌ بارز على كيف يغيّر الجسد نفسه علاقتنا بالقراءة. في شبابه كان قارئًا نهمًا يرى في المكتبات فردوسًا أرضيًا، كما قال: «كنت أظن أن الفردوس مكتبة». لكن مع تقدم مرضه الوراثي وفقدانه البصر تمامًا في الخامسة والخمسين، تغيرت عاداته القرائية جذريًا. لم يتعلم البرايل، ولم يعد قادرًا على القراءة بالمعنى التقليدي، فاعتمد على ذاكرته وعلى الاستماع إلى الآخرين يقرأون له. يصف كيف أصبحت الكتابة تعتمد على الحفظ، وكيف تحولت القراءة إلى عملية تخيل داخلية، مقاومة للعتمة. هذا التحول جعله يرى في القراءة فعل نجاة من الفناء الجسدي، حيث يصبح الكتاب امتدادًا للذاكرة الجماعية، لا مجرد وعاء للمعرفة.

أما أومبرتو إيكو، فرأى في المكتبة رمزًا للمعرفة غير المكتملة. كانت مكتبته تضم أكثر من ثلاثين ألف كتاب، لكنه كان يؤكد أن الكتب غير المقروءة أو «المكتبة المضادة» كما سماها أهم من المقروءة، لأنها تمثل ما لا نعرفه بعد، وتذكرنا بتواضعنا أمام العالم. رأى أن الكتب التي لم نقرأها بعد ليست عبئًا، لكنها إمكانًا مفتوحًا للنمو، ودليلًا على أننا لم نتوقف عن التعلم بعد.

وفرجينيا وولف رأت في القراءة فعلًا حميميًا يشبه الإصغاء إلى الذات. في مقالتها الشهيرة «كيف يجب أن نقرأ كتابًا؟» تنصح بعدم اتباع نصائح الآخرين، بل بالثقة بالغريزة الشخصية، لأن القراءة تجربة فردية تتطور مع الزمن. قرأت وولف على نطاق واسع، من الكلاسيكيين إلى المعاصرين، وتحولت ذائقتها مع تطور أسلوبها الكتابي، لتصبح القراءة لديها مساحة تأمل داخلي أكثر منها تقييمًا أدبيًا.

ما يجمع هؤلاء الأدباء هو إدراكهم أن القراءة ليست ثابتة؛ إنها تتبدل مع الحياة، تترك أثرًا يشبه الغبار الخفيف الذي يغطي كل شيء. أحيانًا نحب كتابًا لأنه يواسي، ثم نعود إليه فنكتشف أنه كان يخدعنا بلطف. أحيانًا نكره كتابًا لأنه واجهنا بأنفسنا، ثم نكتشف أنه كان يربينا على الصدق.

لهذا، لا يمكن أن نعرف ذواتنا بعشرة كتب. نحن قراء كل ما مرّ فينا، حتى ما نسيناه. القراءة ليست هوية جاهزة، هي حركة دائمة بين ما كناه وما سنكونه، بين قارئ الأمس وقارئ الغد. والأصدق ربما كما فكر ايكو، أن نقول: عرف نفسك بما لم تقرأه بعد، فهو ما يشكلك في الخفاء، بصبر الكتب التي تنتظرك.


video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

وداعًا أماني فوزي حبشي💔 عبير اليوسفي ١٠ ديسمبر ٢٠٢٥ يعجبني دائمًا كيف ينجح الأدب في تمرير الخرافة دون أن تبدو غريبة. يكفي أن يصف الكاتب مشهدًا غير مألوف حتى أعرف أن القصة تتجه نحو منطقة لم يفسرها الإنسان. تذكرت هذا الشعور أثناء قراءة كتاب مانفيستو القراءة، حين وجدت مقطعًا يشير إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفسر العالم بالحكايات، ويعود إليها كلما احتاج إلى معنى أو ترتيب. تحمل الفكرة تاريخًا طويلًا من علاقة الإنسان بالنصوص، علاقة بدأت قبل الكتابة بزمن حين كان الصوت الوسيلة الأولى لتخزين...

حين يسبق الإنسان الطبيب⚖️ فرانز فانون عبير اليوسفي ٣ ديسمبر ٢٠٢٥ صادفت جملة لفرانز فانون في مقالة كتبها إسكندر حبش في كتابه "ضفاف كثيرة، كتابة واحدة". يقول فيها: «الإنسان يحتاج إلى الحب والمودة والشعر ليعيش.» لتبدو الحاجة الإنسانية كما صاغها أبعد من كونها مشاعر لطيفة ترافق الحياة. إنها جوهر الطريقة التي نحافظ بها على ملامحنا في عالم يجردنا بسهولة من أنفسنا. يعاد ذكر فرانز فانون في معظم الخطابات السياسية بوصفه واحدًا من أكثر منظري التحرر جذرية، وكأن قيمته كامنة في تحليله للعنف الاستعماري. لكن...

هل يكتب الأدب ليُنسى؟ عبير اليوسفي ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٥ كأن للكتب أعمارًا تشبه أعمارنا، منها ما يولد وفي فمه صرخة، ومنها ما يولد وفي عينيه نظرة طويلة لا تنتمي لزمن محدد. كنت أفكر مؤخرًا في النصوص التي تُكتب كي تُسمع فورًا وكأنها رسائل مستعجلة إلى مجتمع مرتبك، وكيف أن هذا النوع من الأدب يختفي عادة حين تتغير الشروط التي صنعته. فهناك نصوص تُكتب بنَفَس لاهث، وكأن الكاتب نفسه يخشى فوات اللحظة التي يتكلم فيها، فيلتصق النص بجلد زمنه التصاقًا كاملًا، حتى يبدو كأنه محاولة لالتقاط حرارة اللحظة قبل أن تبرد....