نوبل التي لا تطاق ⏳🎖️
عبير اليوسفي
٨ أكتوبر ٢٠٢٥
كانت هناك خرافة طريفة يرددها ماركيز هي أن نوبل تمنح غالبًا لمن سيموت قريبًا. قال: من بين 75 فائزًا، ظل 20 فقط على قيد الحياة بعد الجائزة، كأن الاعتراف العظيم لا يُحتمل طويلًا. وهي خرافة لم تثبتها الإحصاءات، لكنها تكشف خوف الأدباء من المجد ذاته، وأن يكون الاعتراف نهاية الطريق لا بدايته.
منذ أكثر من قرن، والعالم الثقافي يعيش على إيقاع هذا الطقس الخريفي الذي يبدأ في ستوكهولم. اسمٌ يُعلن، فتضج به الصحف والدنيا، ثم يخفت الضوء شيئًا فشيئًا، لكن ماذا تعني نوبل حقًا؟ أهي تتويج للكلمة، أم فخها الأخير؟
ربما كان ماركيز أول من التقط ذلك حين كتب قبل عامين من فوزه مقالًا ساخرًا بعنوان شبح جائزة نوبل. قال فيها إن الأكاديمية السويدية لغز حصين، يتعمد مخالفة التوقعات ليؤكد أن الجميع على خطأ. سخر منها كما يسخر المرء من قدرٍ يخافه. كان يعرف أن الاعتراف يحمل وجه الخوف من التوقف، من أن يتحول الكاتب إلى ما انتهى إليه. ثم جاءت الجائزة إليه في عام 1982 وكأنها ترد على سخريته بنوعٍ من الحنو القاسي. منذ تلك اللحظة لم يعد ماركيز الكاتب وحده، لكنه ماركيز الحائز نوبل، كأن الجائزة تغلف الاسم بغلاف من ذهب لا يُنتزع.
في الضفة الأخرى، كان بورخيس يبتسم بخيبته الأنيقة. سُئل عن نوبل فقال: من المؤسف أنها لم تُمنح بعد لأفضل كاتب في الأرجنتين: أنا. أما بيكيت، فقد تلقى الخبر بجملته الشهيرة: “يا إلهي، يا لها من كارثة!” كان يخشى ما يأتي بعد الاعتراف، أن يُستدعى من عزلته إلى الضوء، أن يُجبر على تمثيل ذاته أمام العالم. بيكيت كان يكتب ولا يحتمل تصفيق القاعات. كان يعلم أن الصمت هو الجوهر الحقيقي للكتابة.
وسارتر الذي رفض الجائزة عام 1964، لم يرفضها تعففًا، قال إنه لا يريد أن يتحول الكاتب إلى مؤسسة، لأن كل اعتراف خارجي يُعيد تعريف الأدب من خارج روحه، يجعله يُقرأ من خلال شرعية تُمنح له لا من صدقه الداخلي. أراد أن يبقى حرًا من كل تصنيف، حتى لو كان أجملها.
الجائزة نفسها بدأت تتحرر من صورتها التقليدية مع الزمن. نوبل للأدب أصبحت تكافئ الرؤية، والموقف، والصوت الأخلاقي. حين فازت سفيتلانا ألكسيفيتش، احتفى بها كصوت ضد الحروب، ضد تكرار الألم الإنساني في التاريخ. وعندما فاز بوب ديلان بدا المشهد أكثر رمزية. المغني الشاعر يدخل قاعة الأدب، في إشارة إلى أن نوبل لم تعد تبحث عن الشكل بقدر ما تبحث عن الأثر. تحولت من مكافأة على الكتابة إلى احتفاء بالوعي الإنساني في أشكاله كلها.
لكن هل ما زالت الجائزة تُكرم الأدب أم تُعيد تعريفه كل عام بما يناسب مزاج العالم؟
هؤلاء الأربعة ماركيز وبورخيس وبيكيت وسارتر، لم يجتمعوا إلا في خوفهم من المجد، كما لو أن نوبل مرآة تُظهر للكاتب حدوده، أن ما يكتبه لا يعود ملكه بعد اليوم. الجائزة تُعطيه الخلود، لكنها في الوقت نفسه تُجمّده فيه. الاعتراف العظيم يشبه الموت الجميل كما قال ماركيز ذات مرة، لأن من يُتوج لا يعود يعيش إلا كذكرى. ومع ذلك، لا يتوقف العالم عن انتظارها كل عام. ربما لأن نوبل تمثل نوعًا من الطقس الجماعي الذي يوهمنا بأن الأدب ما يزال مركز الكون. ننتظرها كمن ينتظر معجزة وسط فوضى الجمال، نحتاج إلى اسم نعلّق عليه إيماننا بأن اللغة لم تفقد قدرتها على الإنقاذ.
لكن ما تفعله الجائزة في جوهرها أنها تمنح شكلًا لمجهول لا شكل له. تُحول الجمال إلى معيار. منذ “كانط” والفلاسفة يحاولون الإمساك بسر المتعة التي لا غرض لها، تلك التي لا يمكن تبريرها ولا قياسها. نوبل تفعل العكس تضع الغموض في قفص، وتمنحه شهادة.
وربما لهذا يبقى الأدب في حقيقته هاربًا من كل اعتراف. الأدب لا يُقاس، ولا يُمنح، ولا يُعتمد. إنه يحدث في تلك المسافة الدقيقة بين الكاتب وقارئ مجهول، في لحظة صدقٍ عابرة لا تحتاج إلى شاهد. ما تمنحه نوبل ليس الأدب نفسه لكن ظله الجميل.
قال بورخيس مرة إن الحلم أجمل من تحقيقه، ولعله كان يقصد ذلك الحلم الذي اسمه الكتابة. لأن نوبل مهما كانت عظيمة، تُنهي اللعبة. أما الأدب فهو اللعبة التي لا تنتهي. يحدث هناك بعيدًا عن التصفيق والمراسم، في العزلة حيث يولد المجد الحقيقي. اللغة وهي تكتشف نفسها من جديد.
بعد إعلان فوز صامويل بيكيت بجائزة نوبل للآداب عام 1969، رفض إجراء أي حوار أو الاحتفاء بالحدث، لكنه قبل بمقابلة واحدة اشترط أن تكون صامتة.