في غياب الحرية


وفي حضرة القهوة ☕️😌

Author

عبير اليوسفي

في أثناء تصفحي لحساب إحدى الصديقات القارئات، استوقفني اقتباس من كامو في كتابه الإنسان المتمرد: "هل العالم بلا قوانين عالم حر؟". جاء السؤال متزامنًا مع ما أتابعه من فوضى سياسية، فشعرت أنه مرآة لعالم نعيشه يوميًا.

يطرح سؤال كامو إشكالية قديمة وهي هل الحرية تعني غياب كل قيد؟ أو أنها تحتاج إلى إطار يحميها من الانقلاب إلى فوضى؟ فالحرية في معناها ليست فعل بلا حدود، لأنها ستصطدم حتمًا بحرية الآخر. لهذا ميز الفيلسوف إيزايا برلين في مقالته الشهيرة “مفهوم الحرية” بين الحرية السلبية التي تعني غياب العوائق، والحرية الإيجابية التي تعني إمكانية تحقيق الذات داخل نظام يحمي الحقوق. نبه برلين أيضًا إلى أن الإفراط في الحرية الإيجابية قد يتحول إلى ذريعة للتدخل القسري باسم الصالح العام، فيما قد تنقلب الحرية السلبية إلى عزلة أو انسحاب إذا انفصلت عن المجال المشترك. لذا وجود القانون النزيه هو ما يجعل الحرية ممكنة، لأنه أشبه بسياج يحمي الضعيف من افتراس القوي. وعندما ينهار هذا السياج، تصبح القوة وحدها هي المعيار، فتضيع الحرية الجماعية. غير أن الفوضى ليست غيابًا بريئًا للنظام، لأنها تتحول سريعًا إلى قناع جديد للاستبداد، كما تكشف لحظات انهيار الدول. فالفراغ يُملأ بالعنف، وتظهر جماعات تستولي على المجال العام. لهذا يبدو أن غياب الحرية لا يقود بالضرورة إلى الفوضى، لكن غياب الضوابط العادلة مثل القانون النزيه، والثقة، والعقد الاجتماعي يجعل الاجتماع البشري هشًا. وهذا هو جوهر الفساد، فهو ليس مجرد جريمة مالية أو انحراف فردي، بقدر ماهو انهيار للثقة التي تجعل العيش المشترك ممكنًا. حين يتجذر الفساد يفرغ القانون من محتواه، ويضعف الإحساس بالأمان، ويحول الدولة إلى واجهة خاوية. عندها لا تبقى الحرية سوى قناع خارجي، يعيش الأفراد خلفه في قلق دائم، كأنهم عالقون بين نظام غائب وفوضى غير مكتملة.

لكن: هل القانون وُجد ليحمي الإنسان من الآخر، أم ليحميه من نفسه أولًا؟

عند هوبز يظهر البعد السياسي فقد رأى أن الإنسان في حالته الطبيعية ذئب لأخيه الإنسان، وأن الحياة بلا قانون ستكون وحشية وقصيرة، لذا لا بد من عقد اجتماعي يضحي فيه الفرد بجزء من حريته مقابل حماية عامة. روسو بالعكس قدم منظور اجتماعي، افترض أن الإنسان في أصله خير، وأن الفساد جاء مع قيام المجتمع والملكية الخاصة، فالقانون عنده يجب أن يعبر عن الإرادة العامة لا عن خوف الفرد من ذاته. أما فرويد فأضاف بعدًا نفسيًا وهو أن الحضارة قائمة على كبح الغرائز، والقانون بمثابة الأب الرمزي الذي يمنع انفجار الشر الكامن داخل الإنسان.

قد يكون الإنسان ابتكر القانون لأنه لم يثق تمامًا في نفسه ولا في الآخر. فالتحرر المطلق وهم، لأن الداخل البشري ليس نورًا فقط، ظلام أيضًا. والقانون جاء ليحول دون أن يلتهم هذا الظلام حياتنا. لكن حين ينقلب القانون إلى أداة بيد السلطة لشرعنة القمع أو الفساد، فإنه يصنع شرًا أعظم. فأيهما أخطر، الشرور الفردية أم الشر حين يتجسد في مؤسسات السلطة؟

مأساة الفساد أنه لا يظهر دائمًا في صورة وحشية صارخة، لكنه يتسرب في تفاصيل يومية عادية. وهذا ما وصفته حنة أرندت بـتفاهة الشر، الشر يطل عبر موظف مطيع يوقع أوراقًا تُشرعن الظلم، أو بيروقراطي ينفذ التعليمات بلا تفكير. هذا الشكل الصامت من الشر يُطبع في الحياة حتى يصير جزءًا من هوائها.

وعندما تتفشى هذه التفاهة، يكون الموت ممكنًا في أي لحظة. موت العبث، موت الصدفة، موت الغياب. يعيش الفرد في ظل سلطة حاضرة بما يكفي لتفرض هيبتها على الضعفاء، وغائبة بما يكفي لتتنصل من مسؤولية الحماية. وفي هذا الفراغ بين الحضور والغياب يتسع مجال الخوف، وتصبح الحياة نفسها عرضة لأن تُسلب بلا مبرر سوى أن القانون لم يعد أكثر من شعار.

وحين تتحول السياسة إلى معضلة وجودية تفشل الدولة في حماية الفرد، يكون فشلها إداريًا ووجوديًا أيضًا، لأنها تفقد مبرر بقائها. وغياب العدالة يحول المواطن إلى ضحية محتملة، ويجرد حياته من المعنى. فالحرية والقانون من دون ثقة، لا يعودان سوى صيغ فارغة.

يبقى سؤال عزيزي كامو معلقًا: هل العالم بلا قوانين عالم حر؟ ربما أجيب أن الحرية لا تعني أبدًا غياب القوانين، لكن حضور العدالة التي تمنحها معناها. ومن دون هذه العدالة، يظل الإنسان مهددًا بأن يتحول إلى مجرد شبح يمشي في فضاء مفتوح على كل موت ممكن.


فلسفة القهوة ☕️📖:

يصادف اليوم بداية أكتوبر اليوم العالمي للقهوة، وفي حضرة السوداء المُرّة صاحبة الرغوة المكثفة، لا يعود الأمر مجرد عادة يومية، لأنها تاريخ طويل من السحر الأسود.

كتاب "فلسفة القهوة" لبريان ويليامز في رحلة ممتدة يتناول تاريخها القديم، تبدأ من الأسطورة الأولى عن راعي الماعز الإثيوبي الذي اكتشف أثر الحبوب الحمراء على قطيعه، وصولًا إلى المقاهي الحديثة التي صارت مساحات للحوار والفكر.

في القرن الخامس عشر انتقلت القهوة من أديرة الصوفية في اليمن إلى موانئ الحجاز، ثم إلى القاهرة وإسطنبول، ومنها إلى البندقية فباريس ولندن. كان فنجان القهوة يُشعل النقاشات الفلسفية والعلمية، ويحرض على اليقظة، حتى أن المقاهي عُرفت في أوروبا بـ”جامعات الفقراء”. هذا الشراب الداكن رافق الثورات السياسية، وشارك في صياغة الحداثة، إذ كان مكانًا لجدالات المفكرين، وموئلًا للشعراء والكتّاب والفنانين ويقال أنه سبب تعجيل موت بلزاك الذي كان يحب أن تكون قهوته مخلوطة المحاصيل.

لا يقف الكتاب عند التاريخ فقط، يغوص أيضا في فلسفة القهوة بوصفها طقسًا للانتباه والتأمل، وعلامة على التحول من السكينة إلى الحركة. فهي مشروب الذاكرة الجماعية، ولغة يومية عابرة للقارات، جعلت من البسطاء والنخب سواءً أمام فنجانها، حيث يذوب التفاوت الاجتماعي في الكوب.

القهوة كما يصفها ويليامز، أكثر من مشروب، تجربة إنسانية تقاطعت فيها التجارة والسياسية والروحانية والإبداع. وكل رشفة منها تذكير بتاريخٍ طويل من الأسفار والاكتشافات، من صوفية اليمن إلى صخب المقاهي الباريسية.

دامت فناجينكم ممتلئة 🤎

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

بلطجة المثقفين🔍🔖 عبير اليوسفي ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥ من النادر أن يجتمع كاتبان في مقهى دون أن يختبئ في أحدهما ظل خصومةٍ ما، قديمة أو مؤجلة. فالتاريخ الأدبي منذ بداياته، كان مسرحًا مفتوحًا للعداوات المعلنة والخفية بين كُتّابه؛ كأن الإبداع لا يكتمل إلا في حضور خصمٍ ما، أو أن القلم لا يصفو إلا على حافة الغيرة. وفي زمن مضى كان الأدباء يتبادلون الهجاء والنقد اللاذع كما لو أن الكتابة ميدان صراع، وأن الجمال لا يُولد إلا من وسط العداء. في الأدب العربي لا يغيب عنا صدامات العقاد وطه حسين، وما تركته من جروح في...

عشرة كتب لا تكفي 📚😱 عبير اليوسفي ١٥ أكتوبر ٢٠٢٥ مؤخرًا انتشر على منصة إكس ترند يحمل تغريدة تقول:«عرف نفسك بعشرة كتب». للوهلة الأولى يبدو الأمر لعبة عابرة أو تمرينًا على التذكر، لكنه يخفي ما هو أهم من ذلك. كدت أشارك فيه، لولا أن الحيرة أوقفتني: كيف يمكن أن أختزل ذاتي القرائية في عشرة كتب؟ كيف أحصر أثر ما قرأته، وما غير فيّ، والنفس ليست ثابتة أصلًا؟ يبدو وكأننا نحاول رسم ملامح وجهٍ يتبدل باستمرار، لا يستقر على ملامح واحدة. فالقراءة نفسها ليست فعلاً خطيًا، هي تراكم متشابك من لحظات، وحوارات،...

نوبل التي لا تطاق ⏳🎖️ عبير اليوسفي ٨ أكتوبر ٢٠٢٥ كانت هناك خرافة طريفة يرددها ماركيز هي أن نوبل تمنح غالبًا لمن سيموت قريبًا. قال: من بين 75 فائزًا، ظل 20 فقط على قيد الحياة بعد الجائزة، كأن الاعتراف العظيم لا يُحتمل طويلًا. وهي خرافة لم تثبتها الإحصاءات، لكنها تكشف خوف الأدباء من المجد ذاته، وأن يكون الاعتراف نهاية الطريق لا بدايته. منذ أكثر من قرن، والعالم الثقافي يعيش على إيقاع هذا الطقس الخريفي الذي يبدأ في ستوكهولم. اسمٌ يُعلن، فتضج به الصحف والدنيا، ثم يخفت الضوء شيئًا فشيئًا، لكن ماذا...