بلطجة المثقفين🔍🔖
عبير اليوسفي
٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥
من النادر أن يجتمع كاتبان في مقهى دون أن يختبئ في أحدهما ظل خصومةٍ ما، قديمة أو مؤجلة. فالتاريخ الأدبي منذ بداياته، كان مسرحًا مفتوحًا للعداوات المعلنة والخفية بين كُتّابه؛ كأن الإبداع لا يكتمل إلا في حضور خصمٍ ما، أو أن القلم لا يصفو إلا على حافة الغيرة. وفي زمن مضى كان الأدباء يتبادلون الهجاء والنقد اللاذع كما لو أن الكتابة ميدان صراع، وأن الجمال لا يُولد إلا من وسط العداء.
في الأدب العربي لا يغيب عنا صدامات العقاد وطه حسين، وما تركته من جروح في المشهد الثقافي. لكن تلك الخلافات لم تكن محض جدل فكري بارد، بقدر ما مثلت معارك شخصية متخفية في لغة النقد، تسربت منها أحيانًا نزعات الغيرة والمنافسة والرغبة في الهيمنة. ليبدو الأدب وكأنه ميدان لتصفية الحسابات بقدر ما هو مجال للبحث عن الجمال والمعنى.
الأمر نفسه يتكرر في أوروبا، حيث تحول قلم جان بول سارتر إلى سلاح يهاجم به أصدقاء الأمس وخصوم اليوم. خلافه مع ألبير كامو حول الموقف من العنف الثوري ما زال يُستدعى كأحد أشهر الانقطاعات الفكرية في القرن العشرين، صداقة حولها التباين الأخلاقي إلى قطيعة معلنة. ثم جاء عداؤه الشرس مع لويس-فرديناند سيلين، الكاتب المثير للجدل، ليكشف الوجه الأخلاقي لمعاركه.
هذه الأمثلة سواء في السياق العربي أو الأوروبي تعكس أن المثقف يسعى إلى هزيمة خصمه معنويًا اضافة إلى الجانب الفكري، حتى لو كلفه ذلك خيانة صداقة أو تمزيق مشهد ثقافي كامل.
ورغم أن هذه الصراعات لها طابعها السلبي، إلا أنها شكلت جزءًا من ذاكرة الأدب ذاته. فكما يتذكر القارئ نصوص العقاد وطه حسين، يتذكر أيضًا شظايا معاركهما، ولا أخفي أنني ممن تجذبهم قراءة معارك الأدباء ويبدو لي وكأن الثقافة تحمل في جيناتها بذور الخصومة. لكن هل يمكن للمثقف أن ينفصل تمامًا عن نزعة التنافس والتصفية؟ أم أن هذه النزعة جزء من محرك التاريخ الثقافي؟
قبل شهر خضت قراءة ثلاثية الكاتب العراقي جمال حسين علي «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟»، والحق أن ما يفعله الكاتب لا يقتصر على تشريح علاقة المثقفين ببعضهم، بقدر ما يفتح نافذة على تناقضات الثقافة نفسها، بما هي مرآة للمجتمع وفضاء للمقاومة في الوقت ذاته. تكون القراءة مواجهة مع واقع يُظهر أن الثقافة التي يُفترض أن تكون ملاذًا للحرية قد تتحول إلى ميدان للهيمنة، حيث تُمارس أشد أشكال العنف قسوة، ولكن بأدوات رمزية وناعمة.
يظهر الوسط الثقافي في كثير من الأحيان مختبر لصراعات لا تنتهي. صراعات على الشرعية، على الاعتراف، على من يتصدر المشهد ومن يُقصى إلى الهامش. ولعل أكثر ما يكشفه الكاتب هو هذا النزوع إلى التعالي، حيث يتعامل المثقف المخضرم مع الناشئ بازدراء، كأن دخوله إلى الحقل الثقافي جريمة تستوجب التهشيم بدل الرعاية. هي آلية قديمة من آليات السلطة، لا يكفي أن يكون المثقف قد رسخ اسمه، لكن عليه أن يبرهن على سطوته بإلغاء كل صوت آخر، حتى وإن كان أكثر جدة أو ابتكارًا.
ولم تعد صورة المثقف التي حلم بها عصور التنوير، حيث الفكر يقف ضد الطغيان، أصبح صورة أكثر التباسًا، أقرب إلى ما يمكن تسميته النخبة المريضة التي تُمعن في الانقسام والاستعداء، وتتفنن في تفجير الخلافات الهامشية بدل أن تنشغل بالأسئلة الجوهرية. وكما يذكر جمال في الجزء الثاني بعنوان "بلطجة المثقفين" أنه يكفي أن تتوتر العلاقة السياسية بين بلدين متجاورين، حتى نجد مثقفيهما يتبارون في كتابة النصوص الساخرة أو الشتائم المقنعة، وكأن الثقافة لم تُخلق إلا لتغذية العصبيات.
وإذا كانت الثقافة كما قيل ذاكرة الشعوب، فإنها هنا تنقلب إلى ذاكرة مشوهة، لا تحفظ القيم الأصيلة بقدر ما تكرس رواسب الأحقاد. لكن أي معنى يبقى للثقافة حين تغدو أداة في خدمة الغرور الشخصي أو الأدلجة الرخيصة؟ وما قيمتها إذا لم تتحرر من منطق السوق الرمزي الذي يبيع الوهم والنجومية باسم الفكر؟
يبدو أن مشكلة المثقفين لا تكمن فقط في اختلافاتهم الفكرية، فهذا أمر صحي، لكن في رغبتهم بالهيمنة على الآخر، وتحويل الحوار إلى معركة بقاء. وعلى اختلاف مشاربهم، فإنهم يشاركون في لعبة قديمة تعرف بلعبة السلطة. قد تكون سلطة المعنى أو سلطة المكانة أو سلطة الجسد، لكنها سلطة في النهاية، تجعل الثقافة أقرب إلى نسخة مكررة من السياسة، حيث تُدار الصراعات بمنطق الغلبة بدلا من منطق البحث عن الحقيقة.
يكتسب حديث جمال حسين علي قيمة مضاعفة. فهو لا يفضح المثقفين ليشمت بهم، وإنما ليذكرنا أن الثقافة الحقيقية لا تقوم على التقديس الأعمى للأسماء، لكن على مساءلة دائمة للذات. الثقافة التي تُقاوم النسيان هي التي تفضح تناقضاتها أولًا، وتقر بضعفها، لتعود قادرة على حمل رسالتها الكبرى وهو أن تكون فعل مقاومة.
بلطجة المثقفين كما أحببت تسميتها بكل أشكالها من التعالي إلى الاستغلال، ليست قدرًا لا يُرد، هي عرضًا مرضيًا لا بد من تشخيصه بوضوح. والوعي بهذا العطب هو الخطوة الأولى لاستعادة المعنى، حتى لا تتحول الثقافة إلى قشرة رقيقة تخفي فوضى أكثر توحشًا من تلك التي تدّعي مقاومتها.
•قصة موسيقى 🎵
السيمفونية الثالثة لبيتهوفن — “إيرويكا” (Eroica Symphony) واحدة من أكثر القصص درامية في تاريخ الموسيقى، لأنها تجسد لحظة خيانة فكرية وشخصية عميقة بين فنانٍ ومثاله الأعلى.
حين بدأ لودفيغ فان بيتهوفن في تأليف هذه السمفونية عام 1803، كان يعيش في ذروة إعجابه بنابليون بونابرت. في ذلك الوقت كان نابليون رمزًا للثورة الفرنسية وأفكار الحرية والمساواة التي غيرت وجه أوروبا. رآه بيتهوفن بطلاً تحرريًا، وتجسيد للحلم بأن الإنسان يمكنه أن يثور على الاستبداد ويصنع مصيره بيديه.
بيتهوفن كان معجبًا بفكرة “الإنسان العظيم” التي تضع الفرد المبدع فوق القيود الاجتماعية والسياسية، وكان يرى في نابليون صورة لذلك الإنسان الذي سيقود العالم إلى عصر جديد من العدالة والعقل. لذا كتب في الصفحة الأولى من السمفونية عنوانًا واضحًا “مكرسة إلى بونابرت”. لكن حين سمع بيتهوفن أن نابليون أعلن نفسه إمبراطورًا لفرنسا، تغير كل شيء. شعر بأن بطله الذي كان يراه حاملًا لراية الحرية تحول إلى طاغية آخر. كانت تلك بالنسبة له خيانة للمثل الأعلى الذي آمن به، وانقلابًا من الثورة إلى السلطة.
يُروى أنه مزق صفحة الإهداء بيده، حين بلغه الخبر حتى تمزقت الورقة تمامًا، وصرخ غاضبًا: “إذن هو ليس إلا إنسانًا عاديًا.. سيغدو طاغية!.". أعاد بيتهوفن بعد ذلك تسمية العمل بعنوان جديد "لذكرى رجل عظيم". أي أنها لم تعد مكرسة لشخص بعينه، إنما لفكرة البطولة ذاتها، البطولة التي تقاوم الطغيان. وهكذا تحول العمل من تحية إلى نابليون إلى مرثية لفكرةٍ خُذلت.
ولعل أجمل ما في السمفونية هو هذا التوتر الداخلي بين الحلم والخيبة، حيث تمتزج نغمة النصر بالحزن، وكأن بيتهوفن يكتب موسيقى جنازة للمثل الذي مات.
حتى اليوم تُعتبر “إيرويكا” بداية التحول في موسيقاه، من التأليف الكلاسيكي المقيد إلى موسيقى البطل الإنساني المتمرد. لقد كتب بيتهوفن عملًا يعلن فيه أن البطولة ليست في السلطة، لكن في مقاومة السقوط أمامها.