حلم غوته العالمي


المنافسة بين بكين وواشنطن⚔️📊

Author

عبير اليوسفي

في بداية القرن التاسع عشر، تخيل الكاتب الألماني غوته حلمًا أن تصبح الآداب حول العالم قادرة على التفاهم والتواصل، وأن تخرج من حدودها الضيقة لتصنع معًا لغة إنسانية تجمع الشعوب. كان غوته يتحدث عن انفتاح ثقافي عالمي، يؤمن أن الإبداع يمكن أن يكون جسرًا بين البشر، مهما اختلفت لغاتهم وأوطانهم.

غير أن هذا الحلم الطوباوي لم يصمد طويلًا أمام التحولات الواقعية. فمع توسع السوق وبروز القوى الاقتصادية الكبرى، بدأ الأدب يُعامل بوصفه سلعة، يُنتج ويُسوَّق ويُستهلك وفق منطق العرض والطلب. ويصبح أداة ضمن منظومة النفوذ، حيث تحتكر بعض اللغات ودور النشر موقع الصدارة في ما يُسمّى “الأدب العالمي”، فيما تُدفع آداب أخرى إلى الظل، أو تُعاد صياغتها لتلائم أذواقًا خارجية على حساب روحها الثقافية الأصيلة.

هنا تبرز إشكالية التمثيل، ما المعايير التي تُحدَّد بموجبها الأعمال التي تُترجم وتُوزع عالميًا؟ ولماذا يبدو هذا “العالمي” متقوقعًا في اختياراته، يكرر لغتين أو ثلاثًا ويغفل البقية؟ وهل الأدب الذي يتصدر المشهد هو فعلًا الأجدر بالتمثيل؟

مع تعقّد هذه الأسئلة، ومع صعود النزعات القومية إثر الحروب والاضطرابات، تراجعت طموحات الأدب العالمي. انكفأت كثير من الثقافات على لغتها وسرديتها، كمن يبحث عن حماية هويته. ورغم هذا الانكماش، استمرت محاولات فردية وجماعية لاستعادة صوت إنساني مشترك، يحتضن الخصوصيات كجزء من المعنى.

عاد مفهوم “الأدب العالمي” إلى التداول بكثافة في زمن العولمة، غير أن هذه العودة لم تكن محايدة ولا بريئة من التحيزات. فقد ارتبطت بترتيبات جديدة في سلطة النشر والتوزيع التي تحدد من يُسمع صوته ومن يُقصى. بذلك لم يعد الأدب العالمي مجرد حيز للتلاقح الثقافي، تحول إلى ساحة تُدار فيها صراعات رمزية على التمثيل والاعتراف والهيمنة.

ولا تتعلق الإشكالية فقط بما يُكتب، أيضًا بما يُتاح له بالوصول والاعتراف. فالمسألة في جوهرها تتصل بالبنى الأساسية للتمثيل الثقافي. ما يُقدَّم اليوم باسم العالمية هو في كثير من الأحيان ما تسمح به السوق العالمية، أو ما يخدم تصورات نمطية يريد الغرب ترسيخها عن “الآخر”. يمكن النظر إلى أطروحة هارولد بلوم في كتابه التقليد الأدبي الغربي بوصفها نموذجًا عن هذا التمركز الثقافي. بلوم يدافع عن مركزية الأدب الغربي ويرى في الأعمال الكبرى التي أنتجتها أوروبا الذروة الحقيقية للعبقرية الإنسانية، وهو بذلك لا يرى الأدب العالمي إلا من خلال مرآة الغرب، معيدًا إنتاج ذات الرؤية الكولونيالية التي تفترض أن العالم لا يُفهم إلا انطلاقًا من سردية المركز.

هذا التوتر في الرؤية العالمية للأدب، هو ما تنبّه له إدوارد سعيد حين بيّن أن الهيمنة الثقافية ليست مجرد تبعية جمالية أو لغوية، بل جزء من بنية أوسع من السيطرة السياسية والاقتصادية. فالسرديات المهيمنة تُنتج تصورات العالم، وتعيد تشكيل وعي الإنسان بذاته وبالآخر، ومن ثم فإن التحكم في “من يروي الحكاية” هو في جوهره شكل من أشكال السلطة. وعلى نحو مكمل، جاءت مساهمات دافيد دامروش لتقترح فهمًا مغايرًا لمفهوم الأدب العالمي، لا يقوم على ما يُنتج بل على ما يُتاح له بالعبور والتفاعل داخل سياقات مختلفة. فالعالمية هنا تُكتسب عبر الترجمة والتلقي والتأويل. ومن هذا المنظور، تُصبح الترجمة والنشر والتوزيع أدوات مركزية في إعادة رسم خرائط الاعتراف، وتُطرح أسئلة أكثر أهمية كمن يملك أدوات الوصول إلى القارئ العالمي، ومن يُبقيه النظام الثقافي على الهامش؟

اليوم، ومع اشتداد التنافس بين الصين والولايات المتحدة، يتجاوز الاقتصاد وظيفته التقليدية بوصفه ساحة لتبادل السلع، ليتحول إلى ميدان لإنتاج المعاني والقيم. تسعى الصين مستندة إلى تقاليدها الفلسفية القديمة وطموحاتها التقنية الحديثة، إلى تقديم نموذج حضاري بديل، يُزاوج بين الجماعية الثقافية والتحديث التكنولوجي، في مواجهة النموذج الرأسمالي الغربي الذي يُروج لفردانية حادة باعتبارها ذروة التطور الإنساني. وفي خضم هذا الاشتباك، لم يعد الأدب العالمي حلمًا شفافًا كما تصوره غوته، غدا ساحة نزاع مفتوح بين القوى الكبرى على رسم صورة العالم القادم. ويبقى التحدي الحقيقي اليوم أمام الثقافات التي تقع على هامش هذا الصراع، أن تتجنب التحول إلى مجرد مستهلكة للروايات الجاهزة، أو حقلًا لتجارب الهيمنة الرمزية. الدفاع عن التعدد في الأدب العالمي هو دفاع عن التنوع الجمالي، وتأكيد على حق كل إنسان في تخيل مصيره بلغته وخصوصيته الثقافية.

والقراءة كما الكتابة تظل أحد أفعال المقاومة ضد محاولات الهيمنة والإقصاء.


توصية قراءة📚

كتاب “شهر في سيينا” لهشام مطر عن الشفاء بالحس الجمالي بعد فقدٍ شخصي، وتأمل في العلاقة بين الإنسان والفن.

يتحدث هنا هشام مطر عن زيارته خلال شهر لمدينة سيينا الإيطالية بعد سنوات طويلة من اختفاء والده القسري في سجون النظام الليبي. ويكتب في كيف يمكن للوحة فنية، أو تمثال، أو كنيسة أن تمدّ الإنسان بقوة داخلية. يقول إن الفن لا يقدم أجوبة، لكنه يخلق مساحات للتفكر، وهو في كثير من الأحيان يعزي أكثر مما يُعلم.

والد هشام مطر مختفٍ بمصير مجهول منذ سنوات، وهذه الثيمة ترافقه في كل مكان، حتى في المدينة التي يزورها. يبحث في الوجوه واللوحات والعمارة عن معنى الغياب المستمر، وعن إمكانية الحضور عبر الأثر والصورة

ما يميز الكتاب في نظري، أنه لا ينتمي إلى السيرة الذاتية بالمعنى التقليدي، ولا إلى أدب الرحلات أو الكتابة الفنية الخالصة، هو توليفة وجودية إنسانية مكتوبة بلغة جمالية رصينة.


video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

في تشتيت التشاؤم وتجميل الأقدار🧿🦉 Edward Hopper عبير اليوسفي ١٨ يونيو ٢٠٢٥ كانت جدتي تتوجس كلما نبح كلب في المساء، معتبرةً صوته نذير موت يلوّح من بعيد. أمي ورثت هذا التوجس كأنه إرث لا يُرد. أما صديقتي الهندية التي لم تكن تجيد العربية لكنها تجيد قراءة الإشارات، فكانت تنهرني حين أحرّك قدمي أثناء الجلوس، وتقول إنها علامة على فقد أحد الوالدين. وما يظل شائعًا هو رفة العين: فإن كانت اليسرى قالوا “ستبكين”، وإن كانت اليمنى قيل “رزق أو سيعود غائب”. لكن ما أحببته أكثر هو حكة كفّ اليد، الحكة الصغيرة...

عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮 عبير اليوسفي ١١ يونيو ٢٠٢٥ مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟ تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا. وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى...

تأملات في المرارة🧘🏻♀️❤️🩹✨ أفروديت آلهة الجمال عبير اليوسفي ٤ يونيو ٢٠٢٥ هل فكرت يومًا في سر الجمال ولماذا يدهشنا ويؤلمنا في آنٍ واحد؟ طُرح على إدغار موران سؤال حول الدافع الذي قاده إلى الكتابة عن الجمال في سن الخامسة والتسعين. فأجاب بأن السينما والأدب والشعر كانت منذ طفولته الأولى الركائز التي شكّلت رؤيته للعالم وصاغت ملامح شخصيته. عاش يتيمًا في العاشرة، فوجد في الفن ملاذًا يكتشف من خلاله ذاته ويمدّ صلته بالحياة. وأوضح أنه تأثر بقراءة رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، والمعزوفة التاسعة...