عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮
عبير اليوسفي
١١ يونيو ٢٠٢٥
مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟
تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا.
وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى لصق صور الفنانين الذين أحببتهم مع عبارات اعجاب.
استمرت تلك العادة، وتحولت من مذكرات مجانية إلى أنيقة، تحمل في صفحاتها رعب الرياضيات وقلقها، وتواقيع زميلات دراسة نسيتُ وجوههن.
ومع اختياري دراسة الصحافة، تطور فعل الكتابة إلى نصوصٍ مهذبة تحاول الظهور بشكلٍ أدبي. ثم جاء عصر المدونات، فاجتاحتني رغبةٌ جديدة في أن أشارك الآخرين، انتقلت من الورق إلى فضاء إلكتروني أكثر رحابة. ومن مدونة شبه مغلقة إلى هذه النشرة الأسبوعية.
جُبلت الكتابة من الأساس على نوعٍ من القلق، لا ينفصل عن سياقات الزمن والهوية والذاكرة. فحين يكتب الإنسان، يعيد ترتيب زمنه وفق تصور داخلي، يحاول أن يخلق من فوضاه معنىً وشكلًا قابلًا للفهم. ولهذا أرى الكتابة مشروعًا رمزيًا لمقاومة النسيان، متصلًا بالزمن من جهة.
يقول موريس بلانشو: “الكتابة لا تُظهر، إنها تخفي عبر الظهور”. هذا التعريف يزيح الكتابة عن بُعدها التواصلي المباشر، ويمنحها بُعدًا فلسفيًا. كعتبةٍ لدخول ما هو غائب، ما لا يمكن قوله، ما يُقال في غيابه فقط. بهذا المعنى تتحول إلى ممارسة رمزية تُعاد فيها صياغة التجربة، لتعيدنا إلى جدواها. فما يُسمّى جدوى الكتابة لا يمكن اختزاله في أثرٍ أو نتيجة.
سؤال: “ما جدوى الكتابة؟” لا يُجاب عليه خارج إطار السؤال الأوسع: “ما جدوى التذكّر؟”. فالإنسان يكتب لأنه لا يستطيع أن يتذكّر كل شيء. يحاول عبر اللغة أن يخلق نسخة تُقنعه حتى لو كانت ناقصة. من هنا جاءت الكتابة بوصفها فعلاً استبداليًا، بديلاً عن الحضور، عن الزمن الحيّ، عن الذاكرة الفورية.
في الأدب، تظهر الكتابة بوصفها أداةً لإعادة تشكيل التجربة. تقول الكندية مارغريت آتوود: “الكاتب يكتب ليحمي نفسه من محوٍ وشيك”، لأن التفاصيل الصغيرة حين تُهمل، تبهت معها الحياة. ولهذا تصبح الكتابة تحويلًا للحظة إلى أثر، وللأثر إلى نص، وللنص إلى شكلٍ من أشكال النجاة الرمزية.
عودة إلى سؤال لماذا أكتب؟
في خبرتي الشخصية، لا أكتب بدافع الفضفضة كما كنت، ولا لغرض التوثيق المباشر. ما يجعلني أعود إلى هذه العادة، ولو بتقطّع، هو إحساسي بأنني في كل مرة أكتب، أستعيد بعض السيطرة على الزمن. والمقصود بالزمن هنا هو الزمن الداخلي، الذي يمر دون علاماتٍ واضحة. والكتابة في جوهرها، هي طريقة لزرع العلامات.
ما كنتُ أفعله في دفتر طفولي لم يكن ساذجًا كما ظنّ من حولي. كان في حقيقته تمرينًا بدائيًا على سؤال: كيف أترك أثرًا؟ كيف أقول ما لا يُقال؟ وأجعل مما لم يعد يُذكر مادةً تقاوم الزوال؟ ورغم انتقالي للكتابة عن الأدب، والتأمل في أثره عليّ، تظل الكتابة في جوهرها محاولةً لمشاركة أفكار، ومحاولةً أعمق للبحث عن المعنى في التجربة.
في النهاية، تمنحني الكتابة القدرة على الإمساك بخيوط الزمن المبعثرة، لأعيد نسجها بحيث تضيء في ذاكرتي وتُعيدني إلى نفسي. أكتب لأمنح لحظاتي الهاربة شكلًا يبقى، ولو لبعض الوقت، وأكتب لأنني أؤمن أن المعنى لا يُمنح لنا جاهزًا، نخلقه عبر الكتابة. وإن بدت أحيانًا عبثية، هي طريقة الإنسان ليقول: “أنا هنا”، طريقة ليحتفظ بشيءٍ من صوته، وسط ضجيج الأيام.
ربما لن تغيّر الكتابة العالم، لكنها تمنحنا نحن اللذين نكتب القدرة على رؤيته بشكل مختلف، لتذكيرنا بأن لكل لحظةٍ، مهما بدت عابرة، فرصةً في أن تُصبح خالدة.
وهذا، برأيي، يكفي وأكثر.
ظل موسيقى🎵
"ذكريات الماضي” واحدة من أشهر معزوفات شوبان التي تمتلئ بالشجن والحنين. يُروى أن هذه القطعة لعبت دورًا حاسمًا في إنقاذ عازفة البيانو نتاليا كارب وشقيقتها من معتقل نازي خلال الحرب العالمية الثانية، بعد أن عزفتها أمام القائد النازي المسؤول عن المعتقل. تعكس هذه المقطوعة عُمق المشاعر الإنسانية وقدرتها على استدعاء الذكريات الماضية وإثارة التأمل في الزمن والذاكرة.