دَلقُ القهوة خير؟


في تشتيت التشاؤم وتجميل الأقدار🧿🦉

Author

عبير اليوسفي

كانت جدتي تتوجس كلما نبح كلب في المساء، معتبرةً صوته نذير موت يلوّح من بعيد. أمي ورثت هذا التوجس كأنه إرث لا يُرد. أما صديقتي الهندية التي لم تكن تجيد العربية لكنها تجيد قراءة الإشارات، فكانت تنهرني حين أحرّك قدمي أثناء الجلوس، وتقول إنها علامة على فقد أحد الوالدين. وما يظل شائعًا هو رفة العين: فإن كانت اليسرى قالوا “ستبكين”، وإن كانت اليمنى قيل “رزق أو سيعود غائب”.

لكن ما أحببته أكثر هو حكة كفّ اليد، الحكة الصغيرة التي تهمس بشيء من المال أو بسلام مرتقب من يد محب، فتتحوّل اليد إلى لغة لا تخيب. ومع هذا، كان الجانب الأيسر دومًا في موضع شبهة. لا أحد يعلم لماذا، رغم أن القلب وهو أرقّ الأعضاء محشور في الناحية التي يعتبرها الناس مشؤومة!

في التشاؤم، لا تختلف جدتي عن كثير من الفلاسفة والكتّاب. بل لعلنا نحن من ورثنا توجساتنا عنهم. المعري على سبيل المثال، كان مشهوراً بتشاؤمه. وابن الرومي الذي رافقه النحس والشؤم في حياته وأشعاره، لم يسلم من استحضر سيرته من حظه النحس. فحين قرر العقاد الكتابة عن ابن الرومي، لاحقته المصائب من كل الجهات، وقد شهد بذلك بنفسه حين روى أن مدير المطبعة التي تعاقد معها مات، وسُجن هو قبل أن يفرغ من الكتاب، وكان وزير المعارف آنذاك أحمد حشمت، فأوصى بطبع الكتاب، وعيّن مفتشًا لتصحيحه، فمات المفتش والوزير معًا قبل الفراغ من العمل. ثم تتابعت المصادفات الغريبة، فكل من عمل على الديوان أُصيب بكارثة: المازني كُسرت رجله، ومجلة “البيان” التي كانت تتولى النشر تعطّلت.

في الشؤم أيضًا كانت البومة المتهمة الشهيرة فيه، والرقم ١٣ أيضًا ظلّ مسكينًا في ذاكرة البشر، ضحية لأسطورة لم تُنصفه. قيل إن طاولة العشاء الأخيرة للمسيح كانت تضم ١٣ شخصًا، وكان يهوذا آخر من جلس. وفي أساطير الفايكنغ، دخل الإله “لوكي” الضيف الثالث عشر فشبّت الفوضى، وقُتل أحد الآلهة. لكن لو أمعنت النظر، لرأيت هذا العدد الفردي الجميل يقف هادئًا، متأهبًا لشيء لا نعرفه بعد.

لم يكتفوا الأدباء بالتشاؤم، كتبوه وحوّلوا النحس إلى حكاية. فالقط الأسود الشهير بسمعته المشؤومة المرتبطة بتلبّسات الأرواح، جعله إدغار آلان بو عنوانًا وبطلًا لإحدى قصصه. بطل القصة يقتل قطته السوداء شنقا بعد أن اقتلع عينها، لكن القتل دشن المصيبة. يتعرض منزله للحريق، وفي لحظة غضب يقتل زوجته، يخفي جثتها، والقطة تعود لتفضح كل شيء بصوتٍ يأتي من خلف الجدار.

وفي النحس كان سانشو، رفيق دون كيخوته البسيط الطيب، كلما اقترب من تحقيق حلمه، سقط في حفرة النحس الملازم له. ينهال عليه الضرب، يُخدع، يُسرق، وتظل جزيرته الموعودة وهمًا.

وأكثر شخصية تحضرني كانت ذا حظ منحوس وسيئ برأيي، هو بطل مسرحية سوء تفاهم لألبير كامو. رجل يعود إلى بلده سرًا ليفاجئ أمه وشقيقته، لكنه لا يفصح عن هويته. وفي سلسلة من المصادفات القاتلة، تقتله المرأتان دون أن تعرفا من هو. وحين تُكشف الحقيقة، لا يفيد الندم. المسرحية بأكملها تصرخ بالتشاؤم كقدر متربص.

ولأن العقل البشري لا يحتمل الفوضى اخترع الإشارات، جعل في أحيانًا من العطسة بُشرى، وقد تشير لشيء من النحس، ومن طنين الأذن إشارة إلى أن أحدًا يتحدث عن الشخص. وحين يسقط كوب لا نغضب نقول “خير”، وعندما كانت تشعر جدتي بخوف مفاجئ، تفتح يدها للسماء وتقول: “اللهم اجعله خير”، فيصير الخوف دعاء، والدعاء أملًا، والأمل ضربًا من ضروب النجاة. لكنها لم تنجُ من جلطة دماغية أودت بحياتها قبل ثلاثة أعوام ولم يحدث قبل موتها أي من الإشارات التي كانت تخشاها.

ما دفعني لقول كل هذا؟

فنجان قهوة دلقته دون قصد، تناثرت القهوة من حافته أثناء التقديم. وحين بدأت صاحبة الفنجان بالتذمّر، سارعتُ بالقول: دلق القهوة خير! ربما هو الخير دائمًا نابع من أشياء صغيرة تُرتب الحياة دون أن ننتبه. أو هي مقاومة صغيرة ضد شؤمٍ خفي.

لتكن فناجينكم مدلوقة دومًا بالخير، وليكن السلام الذي يسكنكم لا يُرف له جفن.


موسيقى 🎵:

video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮 عبير اليوسفي ١١ يونيو ٢٠٢٥ مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟ تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا. وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى...

تأملات في المرارة🧘🏻♀️❤️🩹✨ أفروديت آلهة الجمال عبير اليوسفي ٤ يونيو ٢٠٢٥ هل فكرت يومًا في سر الجمال ولماذا يدهشنا ويؤلمنا في آنٍ واحد؟ طُرح على إدغار موران سؤال حول الدافع الذي قاده إلى الكتابة عن الجمال في سن الخامسة والتسعين. فأجاب بأن السينما والأدب والشعر كانت منذ طفولته الأولى الركائز التي شكّلت رؤيته للعالم وصاغت ملامح شخصيته. عاش يتيمًا في العاشرة، فوجد في الفن ملاذًا يكتشف من خلاله ذاته ويمدّ صلته بالحياة. وأوضح أنه تأثر بقراءة رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، والمعزوفة التاسعة...

جدليات فيسبوكية🌋 لوحة للفنان الفرنسي Honoré Daumier عبير اليوسفي ٢١ مايو ٢٠٢٥ بعد انتشار نص أثار جدلًا واسعًا على منصة فيسبوك قبل أيام. تباينت الآراء بين من قرأه كتعبير حرّ ينتمي إلى فضاء الخيال، ومن رآه خطابًا يقترب من حدود التحريض على التعدّي. لكن، في وسط هذا الجدل، ينهض سؤال قديم لا يشيخ: هل يتحمل الأدب مسؤولية ما يقوله؟ منذ أن تحررت الكتابة من سلطة الأخلاق بمعناها التقليدي، أُعيد تعريف الأدب بوصفه فعلاً متخيلًا لا يُقاس بالحقيقة أو القانون أو الدين. قيل إن لا قيد على المخيلة، ولا رقابة...