النوستالجيا في زمن الرقمنة


الذكريات المعلبة🤳📻📼

Author

عبير اليوسفي

كل مرة أفتح هاتفي أجد السنوات الماضية مصطفة أمامي في ذكريات هذا اليوم، وفي كل مرة أعود لتقليب الذكريات أشعر أن شيئًا ما تغير في معنى الحنين. كأن الحنين نفسه الذي كان يتشكل من فجوة بيننا وبين الزمن صار خدمة جاهزة تُعرض عليك بتقنية محسوبة، وتذكرك بما مضى كما لو كان إعلانًا سريعًا.

الذاكرة الرقمية وفرت لنا القدرة على استرجاع الماضي فورًا، لكنها في المقابل نزعت عن الحنين خصوصيته. ليصبح الاسترجاع بلا جهد، وبالتالي بلا ذلك العمق الذي يجعل من النوستالجيا تجربة إنسانية كاملة. كأن امتلاك القدرة على تذكر كل شيء بسهولة يجعلنا نفقد قيمة التذكر نفسه. فالذاكرة تتحول إلى أرشيف عام، مُجرد من دفء العفوية ومن ثقل الزمن الذي يمنح الذكرى معناها.

أتساءل أحيانًا أمام ذكريات الفيس بوك تحديدا التي تعود لأكثر من عشر سنوات، هل أتذكرها فعلًا أو أنني استهلك نسخًا جاهزة مما مضى ؟

قبل أيام، أثناء تقليبي لمجلدات الصور على اللابتوب، قالت لي أختي إنها لا تملك ألبوم صور لبناتها خارج الأجهزة. كل لحظاتهن محفوظة رقمياً، لكنها لا تملك شيئًا ملموسًا لتصفحه. في المقابل، كان والدي يهوى التصوير الفوتوغرافي منذ شبابه، يحتفظ بكل اللحظات العشوائية تقريبًا. صور لأصدقاءه، رحلات، أعياد ميلاد، لعب في الحوش…وهذا الهوس العفوي أنتج أرشيفًا ضخمًا من الألبومات المتكدسة وأشرطة نيغاتيف غير مطبوعة تحتفظ بها والدتي داخل الصناديق والأدراج. والتي صارت مع الوقت جزءًا من ذاكرتنا الجماعية. صور نقلب فيها الزمن نفسه، ونوع من لمس الحياة في لحظتها الأولى، بما تحمله من عفوية وفوضى لا يمكن ضغطها في ملف رقمي. و أي مقارنة بين الألبوم القديم وهاتف اليوم تكشف لي أن الذاكرة تغيرت، لم تعد حاضرة كأثرٍ حيّ لأنها تحولت لملفًا محاصرًا بالشاشات.

تمر عليّ صورًا على تطبيقات التواصل عن أشياء لم تعد تُستخدم، وغالبًا ما تخص أبناء جيلي التسعينيات العالقين بين زمنين. جيلًا بأكمله وجد نفسه عالقًا بين زمن الطفولة ماقبل التقنية وزمن النضج الرقمي. وأود القول أن هذا الجيل يعيش انفصامًا غريبًا، فهو من جهة يحاول الإمساك بذاكرة غير مؤرشفة مثل روائح، أماكن، طقوس. ومن جهة أخرى يستهلك ذاكرة جديدة محمولة في مساحة هاتفه، مشبعة بالصور والفيديوهات لكن بلا ملمس أو ثقل حقيقي.

الأمر لا يتوقف على الصور، حتى المقاهي والمطاعم اليوم تُصمَّم بطريقة توحي للزائر بالعودة إلى زمن قديم جداً، وكأنها تحاول بيع نوستالجيا جاهزة لزبائن يبحثون عنها. وأغاني الطفولة نفسها خاصة المتمثلة بسبيستون، تُستعاد في حفلات تقام لأجلها وكما لو أنها ميراث جماعي من الحنين المشترك.

إحدى الصديقات تقول إن الحنين تذكير للحفاظ على إنسانيتها لأنه يربطها بضعفها، بأيامها التي لن تعود، ويجعلها تدرك أننا لسنا آلات تسجل اللحظات وتعيد تشغيلها. وربما هذا ما يجعل النوستالجيا في زمن الرقمنة تحديًا جديدًا لكيف نحتفظ بالذاكرة كجزء حي منا. فهي ليست خزانة تحفظ فيها الأشياء، هي فعل نعيشه في كل مرة نستحضر فيه ما مضى. لكن حين تتحول إلى أرشيف رقمي، يصبح الحنين محايدًا، بلا ألم ولا نشوة، بلا تلك الطبقات المتراكبة التي تعطي للماضي حضوره فينا.

يشبه رأيها ما قرأته قبل فترة في مقال تناول دراسة تقول بما معناه وحسب ما أتذكر، أن الحنين ليس مجرد شعور بالافتقاد، هو أداة فلسفية تساعدنا على فهم أنفسنا والواقع من حولنا. ويعتبر عملية تأملية تعيدنا إلى جذورنا، وتساعدنا في إعادة تشكيل هويتنا في مواجهة التحولات الزمنية والتكنولوجية. غير أن الاعتماد المفرط على الذاكرة الرقمية قد يؤدي إلى ما يُعرف بالنسيان الرقمي، حيث يصبح الأفراد أقل قدرة على تذكر المعلومات دون الاستعانة بالأجهزة الرقمية. هذا التحول في كيفية تخزين واسترجاع الذكريات قد يؤثر على قدرتنا في التفكير والتأمل. فنحن لم نعد نتذكر الشيء بحد ذاته، بقدر مانتذكر أين يمكن أن نجده. وهذا تحول مهم في طبيعة التذكر من فعل داخلي يوقظ وعينا، إلى وظيفة خارجية يؤديها جهاز نيابة عنا.

كل جيل يكتب طريقته الخاصة في التذكر. جيل والدي ترك لنا ألبومات صور ستبقى قابلة للمس والوراثة. جيلي ترك كل شيء على أقراص صلبة وهواتف ربما تختفي في أي لحظة. وربما سيأتي يوم يضحك فيه جيل قادم من فكرة أننا عشنا حياتنا محشورة في ذاكرة سحابية، بينما هم يبحثون عن طرق جديدة ليعيدوا للذكرى شيئًا من ثقلها الإنساني.


•في وداع صنع الله إبراهيم:📚

فقدنا الأسبوع الماضي الروائي المصري صنع الله إبراهيم (1937–2025). ويعد من أبرز الأصوات السردية في الرواية العربية، وأغنى المكتبة بسردياته الوثائقية السياسية والاجتماعية، وأعمال مثل “تلك الرائحة”، “اللجنة”، “بيروت… بيروت”، “ذات”، “شرف”، وغيرها، التي شكلت علامة فارقة في تطور الرواية.

من بين ماترجم كتاب “التجربة الأنثوية: مختارات من الأدب النسائي العالمي”. صدرت ترجمته لأول مرة عام 1992، ويتألف العمل من مجموعة نصوص لكاتبات عالميات مثل دوريس ليسينج، إدنا أوبريان، مارلين فرينش، فرانسواز ماليه، وتوني موريسون (وهو أول نص يُنشر لها كاملاً بالعربية)، بالإضافة إلى عدة نصوص أخرى تبرز الحالة العاطفية والهوية الجسدية للمرأة في مراحل مختلفة منها الطفولة، المراهقة، العشق، الزواج، وحتى قضايا ذات أبعاد جسدية واجتماعية، مثل الأمومة والرغبة والتحدي المجتمعي.

في مقدمته للكتاب، يعترف صنع الله إبراهيم أنه تردد طويلًا قبل نشره، لأن الخطاب اليساري العربي ظل منشغلًا بالصراع مع الإمبريالية والتبعية الاقتصادية، وظن أن هذه المعركة الأساسية ستفضي تلقائيًا إلى حل بقية القضايا، كالمرأة، الأقليات، الحريات. لكنه يقول أنه «مرت السنوات دون أن تُحل القضية الجوهرية، بل تعمقت التبعية، ونشر الأجنبي مظلته فوق بلداننا، جنبًا إلى جنب مع العباءة السوداء لقوى الظلام والردة. وتعمق الجهل بأمور صارت منذ أمد موضع دراسات نظرية وإحصائية ومعملية، وإبداعات أدبية وفنية. وازداد وضع المرأة تدنيًا، وجرت محاولة إعادتها إلى ركن التاريخ، لتصبح مجرد أداة جنسية كما كانت في الماضي السحيق، ومحاولة التعمية على مشاعرها وعواطفها، وعلى وجهها وملامحها الخارجية أيضًا».

يتحدث صنع الله عن كيف أن فكرته لترجمة العمل بدأت في بيروت عام 1968 عندما كان يعيش فيها، وقدم بعض النصوص لنشرها في “مجلة الحسناء” التي يرأسها أنسي الحاج والذي تحمس للفكرة، لكن النشر توقف بعد معارضة قوية، وقول أنسي له "أنت تكتب لنا دعارة”! رغم ذلك، لم يتوقف عن مواصلة ترجمة الكتاب عبر رحلة بحثية طويلة في النصوص النسائية الغربية، وظفها كرحلة شخصية لفهم المرأة وسلوكها الجنسي والاجتماعي.

وأظنه بترجمته للعمل أراد أن يساهم في بناء فهم حقيقي للمرأة داخل المجتمع العربي، بعيداً عن التحريم والتجاهل. محاولة لإتيان الصوت الأنثوي إلى حيز المشهد الثقافي بكل جرأة وصدق.
يقول «كل ما أرجوه من هذا الكتاب، هو أن يزيد من معرفتنا بالمرأة، وفهمنا لأنفسنا، وأن يساهم في تقريب اليوم الذي لا تدفع فيه نساء بلادنا الثمن».


•موسيقى🎶

عهد الأصدقاء بعود الراحل أحمد شيبة.

video preview


ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

وحنينه دومًا لأول منزلٍ🏠 🥺 Joan Brull. Dream 1905 عبير اليوسفي ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ منذ فترة صار يرافقني الاستماع لبودكاست عشوائي من يوتيوب كلما خرجتُ من المنزل حتى أصل إلى وجهتي. طريقة فعالة لمقاومة الحرارة، والزحام، وكل ما يجعل من الشارع مساحة طاردة للهدوء. مؤخرًا استمعتُ إلى حلقة تناولت تصور غاستون باشلار للبيت، كما ورد في كتابه "جماليات المكان". و بدا لي أن البيت ليس مجرد أربعة جدران وسقف، هو معمار داخلي يتشكل في وعينا، ويصير مرجعًا دائمًا في كل علاقة جديدة نخوضها مع أي مكان. يُعد البيت في الأدب...

القلق من التنين 🐉😱 عبير اليوسفي ٦ أغسطس ٢٠٢٥ قد يبدو العنوان ظريفًا، لكن الحكاية هي أنني مشتركة في مجموعة قراءة على تطبيق التلغرام. ليس حبًا للنقاشات الطويلة ولا شغفًا بالقراءة الجماعية، هو السبب ذاته الذي نشترك جميعنا به، مصدر جيد لتحميل الكتب، ادخل بخفة لتحميل كتاب وأغادر. لكن قبل أيام وقعت عيناي على نقاش قديم في المجموعة، أو بالأحرى محاكمة علنية أجلست فيها إحدى المشتركات أدب الفنتازيا على كرسي الإتهام. اتهمت القارئة الرواية بأنها تروّج للإلحاد، وتتعارض مع العقيدة الإسلامية، واعتبرتها خطرًا...

و : بالنسبة لبكرا شو ؟ البرفيسور والروائي اليمني حبيب عبدالرب سروري عبير اليوسفي ٣٠ يوليو ٢٠٢٥ في نقاش قيل لي: “تخيّلي لو أن حبيب سروري لم يغادر اليمن.” كان السؤال دعوة لنقل الكاتب إلى سيناريو تخييلي، لكن ما إن فكرت حتى انقلب إلى سؤال مهم ماذا كنّا سنفقد لو بقي؟ وما الذي كان سيُجبر على كتمانه؟ يعد حبيب عبدالرب سروري بروفيسورًا في علوم الكمبيوتر بجامعات فرنسا، وأحد أبرز الأدباء اليمنيين في المشهد الثقافي، والذي أغنى الرواية اليمنية بأعمال تحاكي الخيال والعلم مع الواقع والتاريخ، ومن خلال...