في معنى المكان الأول


وحنينه دومًا لأول منزلٍ🏠 🥺

Author

عبير اليوسفي

منذ فترة صار يرافقني الاستماع لبودكاست عشوائي من يوتيوب كلما خرجتُ من المنزل حتى أصل إلى وجهتي. طريقة فعالة لمقاومة الحرارة، والزحام، وكل ما يجعل من الشارع مساحة طاردة للهدوء.

مؤخرًا استمعتُ إلى حلقة تناولت تصور غاستون باشلار للبيت، كما ورد في كتابه "جماليات المكان". و بدا لي أن البيت ليس مجرد أربعة جدران وسقف، هو معمار داخلي يتشكل في وعينا، ويصير مرجعًا دائمًا في كل علاقة جديدة نخوضها مع أي مكان.

يُعد البيت في الأدب والفلسفة مفهومًا يتجاوز كونه بناءً ماديًا، ليغدو بنية ذهنية وثقافية تُسهم في تكوين الهوية الفردية. فقد نظر مارتن هايدغر إلى البيت بوصفه تعبيرًا عن الكينونة، حيث يكشف معنى البيت عن علاقة الإنسان بالعالم، وعن الكيفية التي ينتمي بها إليه. هذا الفهم يتمايز عن التناول الرومانسي أو العاطفي الذي يحيل البيت غالبًا إلى رمز للدفء أو الحنين، إذ يتجاوز هايدغر هذه الدلالة إلى بعد أنطولوجي أعمق.

لكن في كتابه جماليات المكان يذهب غاستون باشلار في تصوره للبيت بوصفه معمارًا للذاكرة، حيث تتقاطع فيه الخبرات الفردية مع الأطر الثقافية، فيتحول البيت الأول إلى نص داخلي يعاد تأويله باستمرار كلما دخل الفرد في علاقة مع مكان جديد. ليصبح البيت حيزًا يستدعي طبقات من التجربة والرمز.

في الأدب، يُعرَّف البيت في الغالب بأنه الموضع الذي يحتضن أولى الخبرات الحسية والاجتماعية للفرد، مشكلًا بذلك أنماطًا من الانتماء والعلاقات التي تمتد لاحقًا إلى أشكال أخرى من الوجود. وغالبًا ما يظهر بوصفه استعارة للانتماء، وأحيانًا للفقد أو حتى للخطر. حين كتبت فرجينيا وولف غرفة تخص المرء وحده، كانت تشير إلى الحيز المكاني كمساحة مادية، وشرطًا وجوديًا يتيح للبيت أن يكون نقطة انطلاق للحرية الفكرية والتشكل الذاتي. غير أن هذا الشرط نفسه قد يحول البيت أحيانًا إلى مكان للقلق أو للاغتراب، خاصة حين يصبح وعاءً لصراعات داخلية أو قمع اجتماعي. ورغم كل ذلك يبقى هناك ما يمكن أن نطلق عليه البيت الأول، أو البيت الرمزي، الذي نعود إليه كمرجعية شعورية، معيار لا واعٍ نقيس عليه كل ما عداه، حتى وإن لم نعد نعيش فيه.

ما من علاقة نخوضها مع مكان جديد إلا ونصطحبه معنا كظل، كمقياس، كتمثيل أولي للانتماء. وهذا ما يجعل لحظة العودة إلى بيت قديم لحظة مفصلية في حياة كثيرين. أتذكر هنا مشهدًا ورد في كتاب خارج المكان لإدوارد سعيد. لحظة وقوفه أمام بيت طفولته في القدس، بعد سنوات طويلة من التهجير. لم يتغير المنزل كثيرًا لكن شعوره تجاهه تغيّر كليًا. كتب عن ارتباكه الذي أحس به وهو يرى بيتًا لم يعد له. المكان ذاته لكن التاريخ تغير، والهوية أُزِيحت قسرًا فصار البيت علامة على الفقد، أكثر من شعور الانتماء. لأنه تحول إلى شاهد على النفي، وعلى انقطاع السردية. وهذه الفكرة، فكرة البيت المقطوع موجودة في الكثير من التجارب الإنسانية لمن عاشوا التهجير أو الشتات أو الانتقال القسري.

باشلار نفسه وإن كتب عن الحميمية، لم يغفل عن هذه المفارقة أن البيت يُشكّلنا، نعم، لكنه أحيانًا يغيب، يُنتزع، ينهار، ويترك فينا خواءً لا يُملأ. وفي حالات كهذه يتحول البيت من رمز للطمأنينة، إلى أثر مفقود، نبحث عنه في أماكن أخرى، أو نصنع له بدائل متخيلة.

وربما لهذا السبب لا يمكننا الخروج من بيوتنا الأولى تمامًا. تظل تتسرب إلينا، في اختياراتنا، في طريقة تعاملنا مع المكان، في بحثنا الدائم عن مأوى يشبهنا. وأحيانًا نُقيم في بيت لا ينتمي لنا، فنظل غرباء داخله، كمن ينتظر بيتًا لم يأتِ بعد.

أستذكر هذا المقطع في أيام الجنون والعسل، «سأل أحدهم، وهو يهمُّ بأن يخبِّئ ضفدعة تحت أبطه: - حسيب ما هو المنزل؟ أجاب حسيب بلا أسنان:

⁠- إنه باب يكون لك حق السؤال وراءه: مَن الطارق؟ »


•تحديثات قراءة:📖

قبل أيام صادفت مقالًا للكاتب اليمني محمد العلائي في مجلة العربية، كتبه بطريقة فكرية ومنهجية. فقد حاول أن يحرر صورة نيكولو مكيافيلي من القالب النمطي الذي اختُزل فيه طويلًا، بوصفه مجرد رمز لحكمة أخلاقية سطحية أو شعار مبرر للقسوة، ليعيده إلى سياقه التاريخي والسياسي، حيث يمكن فهمه على نحو أكثر إنصافًا

الفكرة المحورية التي يطرحها العلائي هي أن مكيافيلي يدعو إلى إدراك أن أخلاق السياسة تختلف عن الأخلاق الفردية، وأن القائد في أزمنة الأزمات، قد يُضطر لاتخاذ قرارات حاسمة وقاسية لا تنسجم مع المثاليات المجردة، لكنها تظل ضرورية لحفظ الدولة واستقرارها.

ويذكر العلائي بأن مكيافيلي لم يقل حرفيًا عبارة “الغاية تبرر الوسيلة”، وأن شيوعها بهذا الشكل ليس إلا اختزالًا وتشويهًا لفكره. وهذه الإشارة تفتح الباب أمام تأمل أوسع في الكيفية التي تُبسط بها الأفكار المعقدة أو تُشوَّه عمدًا لأغراض النقد السريع، خاصة في ميدان السياسة

المقال يعكس فهمًا لطبيعة السياسة كميدان معقد مليء بالتوترات بين الفضيلة والمصلحة، ما يخرج السياسة من إطار النظريات الأخلاقية الجامدة إلى ساحة عمل تتطلب موازنة دائمة. ويؤكد أن المكيافيلية ليست دعوة للفساد أو القسوة اللامحدودة، هي فلسفة في إدارة الأزمة والواقع السياسي الصعب.

أجده قراءة جيدة وواقعية لمكيافيلي بعيدًا عن الأحكام المسبقة، وهذا بالضبط ما نحتاجه في فهم الفكر السياسي. نظرة فلسفية ناقدة تتجنب التبسيط وتعترف بتعقيد الواقع.


•موسيقى🎶

video preview


ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

الذكريات المعلبة🤳📻📼 عبير اليوسفي ٢٠ أغسطس ٢٠٢٥ كل مرة أفتح هاتفي أجد السنوات الماضية مصطفة أمامي في ذكريات هذا اليوم، وفي كل مرة أعود لتقليب الذكريات أشعر أن شيئًا ما تغير في معنى الحنين. كأن الحنين نفسه الذي كان يتشكل من فجوة بيننا وبين الزمن صار خدمة جاهزة تُعرض عليك بتقنية محسوبة، وتذكرك بما مضى كما لو كان إعلانًا سريعًا. الذاكرة الرقمية وفرت لنا القدرة على استرجاع الماضي فورًا، لكنها في المقابل نزعت عن الحنين خصوصيته. ليصبح الاسترجاع بلا جهد، وبالتالي بلا ذلك العمق الذي يجعل من...

القلق من التنين 🐉😱 عبير اليوسفي ٦ أغسطس ٢٠٢٥ قد يبدو العنوان ظريفًا، لكن الحكاية هي أنني مشتركة في مجموعة قراءة على تطبيق التلغرام. ليس حبًا للنقاشات الطويلة ولا شغفًا بالقراءة الجماعية، هو السبب ذاته الذي نشترك جميعنا به، مصدر جيد لتحميل الكتب، ادخل بخفة لتحميل كتاب وأغادر. لكن قبل أيام وقعت عيناي على نقاش قديم في المجموعة، أو بالأحرى محاكمة علنية أجلست فيها إحدى المشتركات أدب الفنتازيا على كرسي الإتهام. اتهمت القارئة الرواية بأنها تروّج للإلحاد، وتتعارض مع العقيدة الإسلامية، واعتبرتها خطرًا...

و : بالنسبة لبكرا شو ؟ البرفيسور والروائي اليمني حبيب عبدالرب سروري عبير اليوسفي ٣٠ يوليو ٢٠٢٥ في نقاش قيل لي: “تخيّلي لو أن حبيب سروري لم يغادر اليمن.” كان السؤال دعوة لنقل الكاتب إلى سيناريو تخييلي، لكن ما إن فكرت حتى انقلب إلى سؤال مهم ماذا كنّا سنفقد لو بقي؟ وما الذي كان سيُجبر على كتمانه؟ يعد حبيب عبدالرب سروري بروفيسورًا في علوم الكمبيوتر بجامعات فرنسا، وأحد أبرز الأدباء اليمنيين في المشهد الثقافي، والذي أغنى الرواية اليمنية بأعمال تحاكي الخيال والعلم مع الواقع والتاريخ، ومن خلال...