القارئ البسكويت


القلق من التنين 🐉😱

Author

عبير اليوسفي

قد يبدو العنوان ظريفًا، لكن الحكاية هي أنني مشتركة في مجموعة قراءة على تطبيق التلغرام. ليس حبًا للنقاشات الطويلة ولا شغفًا بالقراءة الجماعية، هو السبب ذاته الذي نشترك جميعنا به، مصدر جيد لتحميل الكتب، ادخل بخفة لتحميل كتاب وأغادر. لكن قبل أيام وقعت عيناي على نقاش قديم في المجموعة، أو بالأحرى محاكمة علنية أجلست فيها إحدى المشتركات أدب الفنتازيا على كرسي الإتهام. اتهمت القارئة الرواية بأنها تروّج للإلحاد، وتتعارض مع العقيدة الإسلامية، واعتبرتها خطرًا روحيًا صريحًا لا يستحق حتى أن يُقرأ. ثم انفجر الجدال.

يسأل أحدهم: “إذا كنت ستتجاهل الرسائل الضالة، فلماذا تقرأها أصلاً؟” وآخر يُفرق بين الكاتب الذي يحمل فكرًا مخالفًا، والكتاب الذي يروج لفكر مخالف. ثم يُستحضر الحديث النبوي: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع”، ليُساءل به الأدب كله. ثم تأتي النقطة العجيبة: هل من الجائز تخيل مخلوقات لم يخلقها الله؟ وكأن الخيال يتحدى القدرة الإلهية. كل هذا لأن رواية اشتغلت على بناء عالم متخيل، ضمن تقاليد جنس أدبي معترف به اسمه الفنتازيا.

لكن من خلف هذه الأسئلة تكمن فكرة أكثر إرباكاً: أن القارئ هشّ، سريع التأثر، ضحية محتملة لأي فكرة تخالف معتقداته. وأن الرواية مجرد قراءتها قد تنسف يقينه، وتفسد دينه وتجره إلى العدمية .

هذا القلق تجاه الأدب ليس بجديد، تمتد جذوره إلى بدايات التفكير الفلسفي نفسه. وما يدور من نقاش يعكس خللًا شائعًا في فهم طبيعة الأدب، ومكانته في تشكيل الوعي. الخوف من الفانتازيا بوصفها مُهددًا للعقيدة يُظهر نظرة ضيقة ترى في الخيال خصمًا. كأننا نعود إلى لحظة أفلاطون عندما طرد الشعراء من جمهوريته المثالية، لأن تأثيرهم العاطفي لا يمكن التنبؤ به، وهو ما يرعب الأنظمة المغلقة سواء كانت سياسية أو دينية. الخطأ الذي يرافق هذه النقاشات المستمرة هو اعتبار القارئ وعاءً سلبيًا، وإلغاء قدرته على أن يكون قارئًا إيجابيًا . و هذا ما حذر منه أمثال جورج شتاينر بفكرة أن كل قراءة هي اختبار أخلاقي. لأننا نقيس في كل مرة قدرتنا على التعامل مع الآخر المختلف، أو مع ما يهز قناعاتنا. أما حين يتحول الخوف إلى رقابة، فنحن نحاصر العقول، ونؤكد أن الإيمان هشّ إلى درجة أنه لا يحتمل الخيال.

إحدى الأراء المطروحة في النقاش رأيًا لافتًا، مفاده أن الأطفال وحتى معظم الكبار إذا قل نصيبهم من الثقافة العامة، لن يتمكنوا من فهم الروايات الدسمة، مستشهد بقصائد أدونيس التي يصعب استيعابها من دون إلمام بالأساطير القديمة والديانات السماوية. يأتي هذا القول من ملاحظة واقعية حول الفجوة بين النصوص المعقدة والمتلقّي غير المهيأ، إلا أنه ينزلق نحو منطق إقصائي قد يُفضي من حيث لا يقصد إلى تجريم الغموض وتبسيط الأدب بوصفه واجبًا تعليميًّا على مقاس جمهور افتراضي يجب أن يفهم كل شيء فورًا.

قد تبدو قصائد أدونيس تنطوي على كثافة معرفية تستدعي قارئًا متورّطًا بالأسطورة والتاريخ واللغة بوصفها مادةً فلسفية. لكنها ليست نصوصًا نخبوية بالمعنى السلبي للكلمة. لأنها دعوة اجتراح معنى، من لا يفهمها من القراءة الأولى ليس محرومًا من التجربة الثانية. والفهم هنا يعني الانخراط في دهشة اللغة، في صدمة الصورة. ثم إن هذا الاشتراط المسبق للفهم الكامل كشرط للقراءة، يشبه فرض شهادة أهليه على من يقرأ دستويفسكي أو تولستوي مثلاً، أو اشتراط معرفة اللاهوت المسيحي لفهم كوميديا دانتي، وهو ما يتعارض مع جوهر التجربة الأدبية في أن تقرأ ما يوسع أفقك نحو ما لا تعرفه سلفاً.

يدافع ميخائيل باختين عن الرواية بأنها الشكل الأدبي الأكثر تعددية صوتية أي أنها لا تنقل وجهة نظر واحدة، لكنها تسمح بتداخل الأصوات، وبتعايش المتناقضات داخل العمل الواحد. هي الفن المضاد للدوغما فن التعدد. ولهذا فهي الشكل الأدبي الأكثر ديمقراطية، لأنها تتيح وتمكن.

ثمة من يخشى الفانتازيا لأن فيها عوالم غير مرئية، مخلوقات أسطورية، قوى خارقة. ويرى بأن الخيال تهديد مباشر لعقيدته، أو أن كل سرد رمزي هو دعوة سرية للانحراف كما شعرت القارئة التي فجرت الجدال، وكما يحدث حتى الآن لكتاب شمس المعارف الذي وصم بجنون قارئه كونه يحاكي أعمال الشعوذة والسحر.

هذه النظرة تكشف أن القارئ الذي يرتبك أمام حكاية تنين، أو أسطورة مملكة خرافية، يعاني من خلل في الفهم. كان يرى ميلان كونديرا أن الرواية فن الشك. ولهذا فهي ليست عدوًا للعقيدة، لأنها شريكة لها في التوتر ذاته. كلتاهما تحاول أن تفسر العالم، أن تمنح الإنسان معنى. الفرق أن العقيدة تُنتج يقينًا، والرواية تُنتج قلقًا. ومن لا يحتمل القلق لا يحتمل الرواية.

ثم من قال إن الرواية يجب أن تُقنعنا؟ يكفي أن تُربكنا. أن تفتح لنا فجوة صغيرة في الجدار لنفكر. الأعجب في جدال المجموعة أن ثمة فتاة قالت بأنها ستسأل رجال الدين إذ كان يوجد فتوى تحرم قراءة أدب الخيال، وبإعتقادي من يطالب بتحريم الرواية خوفًا من أفكارها، إنما يخلط بين القراءة والتلقين. إذا كانت رواية فانتازيا قادرة على زعزعة معتقدك، فالخلل ليس في الرواية، هو في فكر القارئ. لأن قارئ الرواية ليس بسكويته هشه تذوب منذ الغمسة الأولى في كوب شاي !

الأدب لا يُفصل على مقاس وعي القارئ؛ مهمته أن يحرض هذا الوعي على التمدد. ومن يرى في الغموض عائقًا، فلعله اعتاد أن يتعامل مع النص كما يتعامل مع دليل الاستخدام يبحث عن التعليمات الجاهزة دون أن يرهق نفسه في التفكير .


•ظلال مكتبة:📖

وجهت الممثلة الراحلة مي سكاف سؤالًا لصديقها الشاعر جولان حاجي حين زارها معزيًا بوفاة شقيقتها لمى. "لماذا نبكي حين نبكي؟ ". قال جولان إن رده كان أشبه بمواساة العجائز الكرديات، أولئك اللواتي لا يمتلكن غير تمتمات بطيئة ومكسورة أمام الموت. وربما كانت تلك هي أصدق أشكال الحضور. لكن الصعب ليس البكاء، إنما الكتابة بعده. الكتابة عمن نحبهم حين يصبحون غيابًا.

قبل مدة قرأت كتاب "عام التفكير السحري"، للكاتبة الأميركية جون ديديون حين كتبت عن موت زوجها بشكل مفاجئ فوق طاولة العشاء. كمحاولة للنجاة من تلك الليلة الأخيرة معه. تجد هذا الألم أيضًا في كتاب "على قيد الحياة" للفرنسي كريستيان بوبان، وهو كتاب صغير وهادئ، لكنه يهز القلب. يرثي فيه زوجته التي ماتت بشكل مفاجئ أيضًا.

لكن في كتاب" مسألة موت وحياة" الأمر مختلف عن كتب تتحدث عن فقدان الشريك، لأنه عمل مشترك بين الطبيب النفسي إرفين يالوم وزوجته المؤرخة مارلين يالوم، ويأتي في شكل مذكرات ثنائية قررا كتابتها في لحظة حرجة من حياتهما، لحظة مواجهة المرض والموت.

الكتاب لا يتناول الموت من زاوية فلسفية باردة، هو أقرب إلى تأملات مكثفة بين زوجين عاشا معًا أكثر من سبعين عامًا، ويواجهان معًا نهاية الطريق، بعد أن تشخص إصابة مارلين بسرطان متقدم. ويعاني إرفين من مشاكل في القلب..

«الفناء كلمة جميلة تظهر في عنوان أحد فصول الكتاب الذي يروي قصة حبّ دامت أكثر من سبعين سنة، ابتدأت منذ أن أُغرم فتى في الخامسة عشرة من عمره بفتاة في عمره تقريبًا ، عندما كان في الصف التاسع، حيث يبلغ إيرفين من العمر 88 عامًا، ومارلين 87 عامًا..»

يبدأ الكتاب بتنويه أن “الحزن هو الثمن الذي ندفعه لأننا امتلكنا الشجاعة لنحب”، وهنا يبدأ السرد المزدوج. مارلين تكتب فصولًا من تجربتها مع المرض والتفكّر في النهاية، بينما إرفين يكتب من زاوية المراقب والمرافق والطبيب السابق والعاشق الذي يتهيأ لوداع زوجته. تتابع الفصول مراحل الضعف الجسدي، الإقامة في المستشفى، التفكير في الموت الرحيم، وتصاعد القلق الوجودي. ومع كل لحظة هناك تأملات في الماضي، في الحب، في الأبناء، في معنى أن تموت بعد أن عشت كل هذا .

بعد وفاة مارلين يُكمل إرفين الكتاب وحده، ويصف حالة الانكسار، والغياب، ومواجهته للعيش دونها، وهو في أواخر الثمانينات من عمره. يكتب عن العزلة، والذكريات، ومحاولات التماسك. وأظن أن هذا أكثر الكتب تأثيرا فيني وأصعبها.


•موسيقى🎶

video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

الذكريات المعلبة🤳📻📼 عبير اليوسفي ٢٠ أغسطس ٢٠٢٥ كل مرة أفتح هاتفي أجد السنوات الماضية مصطفة أمامي في ذكريات هذا اليوم، وفي كل مرة أعود لتقليب الذكريات أشعر أن شيئًا ما تغير في معنى الحنين. كأن الحنين نفسه الذي كان يتشكل من فجوة بيننا وبين الزمن صار خدمة جاهزة تُعرض عليك بتقنية محسوبة، وتذكرك بما مضى كما لو كان إعلانًا سريعًا. الذاكرة الرقمية وفرت لنا القدرة على استرجاع الماضي فورًا، لكنها في المقابل نزعت عن الحنين خصوصيته. ليصبح الاسترجاع بلا جهد، وبالتالي بلا ذلك العمق الذي يجعل من...

وحنينه دومًا لأول منزلٍ🏠 🥺 Joan Brull. Dream 1905 عبير اليوسفي ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ منذ فترة صار يرافقني الاستماع لبودكاست عشوائي من يوتيوب كلما خرجتُ من المنزل حتى أصل إلى وجهتي. طريقة فعالة لمقاومة الحرارة، والزحام، وكل ما يجعل من الشارع مساحة طاردة للهدوء. مؤخرًا استمعتُ إلى حلقة تناولت تصور غاستون باشلار للبيت، كما ورد في كتابه "جماليات المكان". و بدا لي أن البيت ليس مجرد أربعة جدران وسقف، هو معمار داخلي يتشكل في وعينا، ويصير مرجعًا دائمًا في كل علاقة جديدة نخوضها مع أي مكان. يُعد البيت في الأدب...

و : بالنسبة لبكرا شو ؟ البرفيسور والروائي اليمني حبيب عبدالرب سروري عبير اليوسفي ٣٠ يوليو ٢٠٢٥ في نقاش قيل لي: “تخيّلي لو أن حبيب سروري لم يغادر اليمن.” كان السؤال دعوة لنقل الكاتب إلى سيناريو تخييلي، لكن ما إن فكرت حتى انقلب إلى سؤال مهم ماذا كنّا سنفقد لو بقي؟ وما الذي كان سيُجبر على كتمانه؟ يعد حبيب عبدالرب سروري بروفيسورًا في علوم الكمبيوتر بجامعات فرنسا، وأحد أبرز الأدباء اليمنيين في المشهد الثقافي، والذي أغنى الرواية اليمنية بأعمال تحاكي الخيال والعلم مع الواقع والتاريخ، ومن خلال...