تأملات في المرارة🧘🏻♀️❤️🩹✨
عبير اليوسفي
٤ يونيو ٢٠٢٥
هل فكرت يومًا في سر الجمال ولماذا يدهشنا ويؤلمنا في آنٍ واحد؟
طُرح على إدغار موران سؤال حول الدافع الذي قاده إلى الكتابة عن الجمال في سن الخامسة والتسعين. فأجاب بأن السينما والأدب والشعر كانت منذ طفولته الأولى الركائز التي شكّلت رؤيته للعالم وصاغت ملامح شخصيته. عاش يتيمًا في العاشرة، فوجد في الفن ملاذًا يكتشف من خلاله ذاته ويمدّ صلته بالحياة. وأوضح أنه تأثر بقراءة رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، والمعزوفة التاسعة لبيتهوفن، حتى تحولت القراءة إلى وسيلة لمواجهة الواقع. ومن خلال الفن، تعلم أن يرى في المهمشين والمظلومين سمات إنسانية مشتركة، وأن يدرك حجم المعاناة التي دفعتهم إلى الهامش.
يرى الفيلسوف الفرنسي في رؤيته للجمال أنه ليس ظاهرة متجانسة، ولا حالة مطلقة من الانسجام، هو نتيجة توازن دقيق بين النظام والفوضى، الترتيب والتناقض. يشبه حركة ديناميكية تكشف عن هشاشة العالم وتعقيداته، فهو تذكيرٌ بأن الجمال يحمل في داخله احتمالات الزوال والتحوّل. بذلك يصبح لحظة إدراكٍ لمحدودية الإنسان، وينتقد المفهوم الكلاسيكي الذي يربطه بالانسجام والتناسق فقط، مشيرًا إلى أن هذا المفهوم يستثني القبح والتشوه. بينما يمكن أن يتجلى الجمال حتى في الأشياء القبيحة إذا تم التعبير عنها بطريقة فنية.
في رسالة كتبها والتر بنيامين إلى صديقه هربرت، وردت عبارة أثارت انتباهي أثناء القراءة: «يمكن للمرء أن يتحدث عن شيء رائع وغامر، وذلك أن الكثير من حديثه يسوده نوع مرير من الجمال». تبدو العبارة في ظاهرها وصفًا عابرًا، لكنها تكشف موقفًا جماليًا؛ إذ يرى في الجمال لحظة تختلط فيها الدهشة بالألم، فتذكرنا بهشاشة الأشياء وعلاقتها الوثيقة بالمأساة. وهو المعنى ذاته الذي عبّر عنه رامبو في «فصل في الجحيم» بقوله: «ذات مساء أجلست الجمال على ركبتي فوجدته مراً».
هذا «الجمال المرير» عند بنيامين ليس فاقدًا للأصالة، ولا خادعًا تستعمله السلطة لتزييف الوعي؛ هو جمال صادق يكشف أن كل ما يدهشنا في الطبيعة أو في التجربة الإنسانية قد يخفي في طياته أثرًا من الألم. وهذه الرؤية، وإن جاءت في سياق رسالة شخصية، تنسجم مع موقفه الأوسع الذي يرى في الفن والجمال عنصرًا لا ينفصل عن التاريخ وتحولاته؛ فالجمال عنده هو لحظة مواجهة مع حقيقة أن كل ما يُدهش قد يحمل في داخله نقيضه. جمال الطبيعة، مثلًا، قد يخفي هشاشة الصخور؛ وجمال الحديث قد ينطوي على تجربة فقد أو فجيعة لا نراها من الوهلة الأولى.
وقوعي على تأمل الجمال عند بنيامين صادف قراءتي لكتاب «الإنسان في أدب دوستويفسكي» تناول أيضا مفهوم الجمال عنده بصورة أكثر تعقيدًا، إذ لا يقف عند حد الإعجاب بالصورة أو الشكل، إنما يتسلل إلى قلب الإنسان ليكشف عن صراعه بين الخير والشر. الجمال عند دوستوفيسكي هو امتحان للروح في قلب عالم متصدع. ولا يكتمل إلا حين يصبح جزءًا من صراع الإنسان مع ذاته، صراع الإله والشيطان في داخله، حيث تصبح كل لحظة جمالية مرتبطة بمحنة أو سقوط أو توبة.
في شخصياته يصبح الجمال مأساة متجسدة؛ إذ ينهار أمام واقعية العالم، هو تحدٍّ للوجود نفسه. وهنا يلتقي دوستويفسكي مع بنيامين في اعتبار الجمال تجربة مزدوجة؛ لحظة من السمو الإنساني، لكنها في الوقت ذاته هشّة، قابلة للتلاشي، مهددة بالتكرار أو الفساد أو الانكسار.
يتكامل المفهومان في إبراز هشاشة الجمال، سواء في ظل تكرار الزمن وتقنيات الاستنساخ عند بنيامين، أو في قلب الإنسان الممزق عند دوستويفسكي. فكلاهما يرى أن الجمال لا ينفصل عن المعاناة؛ هو دليل على جراح الإنسان ووحدته وسقوطه المتواصل. وهكذا، يلتقي عندهما بوصفه تجربة نابضة بالحياة تحمل في طياتها التهديد والمرارة. وقد يتبدى الجمال كما يراه إدغار موران، اختبارًا دائمًا لإنسانيتنا، وبقوة الفن في ملامسة جراحنا ومخاوفنا.
قد يباغتنا الجمال في لحظة موسيقى أو لوحة أو حتى مشهد عابر، لكنه قد لا يمنحنا الطمأنينة؛ هو يفتح أعيننا على حقيقة أن كل ما نراه عرضة للانهيار أو الزوال. ويغدو نداءً لأن نتأمل أنفسنا والآخرين، وأن ندرك أن في صميم كل لحظة إعجاب يكمن قلقٌ دفين. لعلّ في ذلك سر الفن الأكبر أن يجعلنا أكثر إنسانية في مواجهة العالم، وأن يربطنا ببعضنا البعض بخيط رفيع من الدهشة والرحمة.
إليك السيمفونية التاسعة لبيتهوفن التي تأثر بها الفرنسي إدغار موران 🎶