الشريك المتواري


في تحرير المحرر🗽⛓️‍💥💪🏻

Author

عبير اليوسفي

منذ أن أطلقت ظلال، يقع على عاتقي حمل مهمات عديدة تبدأ من لحظة التقاط فكرة تصلح للكتابة، ثم المراجعة والتنقيح والتحرير حتى تستقيم الجملة في معناها ونبرتها. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فالنشرة تستغرق أيامًا في تجهيزها، من اختيار الموضوع إلى صياغته وجدولته، ثم تنسيقها واختيار المقطع الموسيقي الملائم. وحين أتأمل هذه المهمات، أجد أن تاريخ الأدب نفسه لم يخلُ من مثل هذه الأيادي التي تعمل في صمت، محررين ظلّوا دومًا خلف الكواليس يضبطون اللغة والفكر، ويهذبون الانفعال الفني، ويتركون للكاتب وهج الواجهة فيما يكتفون هم بمقام الظل. ولعل السؤال الذي انبثق كفكرة في رأسي للكتابة عنه هو: متى وُلدت الحاجة إلى المحرر؟

كانت الحاجة إلى التحرير قديمة قدم الكتابة نفسها، فمنذ أن بدأ الإنسان يدوّن على الرق والورق، كان النص يمر بمراحل تصحيح وتنقيح قبل أن يُعتمد وينتشر. من أبرز الأمثلة القديمة، المخطوطات العربية الكبرى مثل كتب الجاحظ وابن قتيبة والتوحيدي لم تصلنا كما كتبها أصحابها أول مرة، مرت عبر أيدٍ ناسخة ومحققة ومراجِعة كانت تضيف هوامش، وتُصلح ما تراه خللاً في الأسلوب أو النحو أو الاستشهاد. وفي التراث الإسلامي، عُرف المحققون والمصححون الذين كانوا يراجعون الروايات الشعرية والحديثية بدقة، ويثبتون الصحيح ويحذفون ما عداه، وهو نوع مبكر من التحرير الثقافي، وإن لم يُسمى بهذا الاسم. وكان من عادة الكُتّاب أن يقرأوا نصوصهم على أقران أو شيوخ علم، ليضبطوا لغتها ويُلفتوا نظر المؤلف إلى ما قد يخل بوضوح المعنى أو جمالية المبنى، كما فعل ابن جني في عمله على شعر المتنبي، وهو دور محررٍ نقدي أكثر من كونه شارحًا فحسب.

مع نشوء المطبعة اتسعت الحاجة إلى المحرر، لأن الكتاب لم يعد يُوجَّه إلى نخبة محدودة من القراء، فقد أصبح له جمهور واسع، وهذا التحول فرض نوعًا جديدًا من المسؤولية. صار لا بد من عين ثانية تفصل بين ما يمكن أن يحتمله النص في ذاته وما يحتاجه ليصل إلى القارئ. في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لعب المحرر دورًا مركزيًا في الصحافة الأدبية، فالمجلات التي أطلقت النهضة لم تكن لتؤثر لولا محرريها الذين غربلوا النصوص. أصبح المحرر في الحداثة شريكًا في البناء الفني للنص.

نجد الشاعر الأمريكي عزرا باوند كان محررا لقصيدة الأرض الخراب للشاعر الأمريكي ت.س.إليوت، وأدخل عليها العديد من التعديلات التي ساعدت في تحسينها وتطويرها على نحو جعلها حجر الأساس للشعر الحداثي. كذلك رواية يوليسيس لجيمس جويس، التي استغرقت أعوامًا من العمل التحريري الشاق، حيث أُدخلت آلاف التعديلات قبل أن تستقر على شكلها النهائي. هذه الأمثلة تكشف أن النص العظيم كثيرًا ما يولد من رحم المراجعة، وأن العبقرية الأدبية لا تُختزل في لحظة الإلهام وحدها، إنما تُستكمل بعين ناقدة تتقن قراءة الآخر وصقله.

يظل المحرر غالبًا في الظل، لربما لأن المجد الأدبي قام على أسطورة “الكاتب الفرد”، ذلك العبقري المنعزل الذي ينتج نصًا كاملاً من ذاته، بينما الحقيقة أن النص أشبه بعمل جماعي يمر عبر أكثر من يد وعين. ولأن المحرر يعرف أن مهمته تقتضي أن يتنازل عن كل أثر شخصي، فيصون للكاتب صوته ولا يطغى عليه، فإنه يتوارى عمداً ليبقى صوته الآخر مخفيًا، وإن كان فعله حاضرًا في كل سطر.

تاريخ الأدب في جوهره هو تاريخ مؤلفين ومحررين وناسخين ومراجعين ومحققين، كلهم شاركوا في صنع النصوص التي نقرؤها اليوم بوصفها كلاسيكيات مكتملة. من دون هؤلاء، لربما بقيت الأعمال العظيمة مسودات ناقصة، أو نصوصًا عصية على الفهم. ولعل العدالة الأدبية تقتضي أن نعيد التفكير في موقع المحرر، كشريك متخفٍ للكاتب، صانعًا للظلال التي لا يستوي الضوء إلا بها.

في تجربتي مع ظلال أجدني أجمع في يدي أدوار المؤلف والمحرر والناشر معًا، وربما يكون في هذا قدر من المشقة، لكنه أيضًا ما يمنحني لذّة أن أكون الحارس الذي يهيئ النص ليصل إلى قارئه في أبسط وأوضح صورة.


•من المكتبة الزنبقة الحمراء📚

ولد أناتول فرانس الحائز على نوبل للآداب عام 1921، في باريس عام 1844 لأسرة متواضعة، وكان كتابه الأول عن “جريمة سيلفستر بونار” بداية مسيرة امتدت لتشمل عشرات الروايات والدراسات، ميزتها لغة رشيقة وسخرية لاذعة ونظرة إنسانية متفحصة. غير أن مكانته لم تُبْنَ على فنه وحده، شملت أيضا مواقفه الفكرية التي جعلته طرفًا حاضرًا في القضايا الكبرى لعصره وأبرزها قضية درايفوس، حيث كان من أوائل المثقفين الذين رفضوا الصمت، ووقعوا مع إميل زولا ومارسيل بروست على بيانات الدفاع عن الضابط اليهودي المتهم ظلمًا. بالنسبة لفرانس كانت معاداة السامية موتًا للحضارة الأوروبية نفسها، ولهذا اتخذ من الأدب منبرًا لمواجهة الانغلاق والتعصب.

ظهرت روايته "الزنبقة الحمراء "عام 1894. والتي تصور مجتمع يتصدع تحت وطأة الرياء الأخلاقي والسياسي. بطلتها تيريزا زوجة سياسي لامع، تجد نفسها أسيرة زواج خاوٍ، فتندفع إلى علاقة عاطفية مع شاب أرستقراطي، ثم إلى حب مع نحات يمثل النزعة الجمالية والفكرية. كل علاقة تحمل بذرتها المدمرة. الغيرة، الخيانة، الفتور، وتكشف أن البحث عن الحب الصافي أشبه بالمستحيل في زمن تحكمه المصالح والقيود الاجتماعية.

فإذا بها تحس في رأسها وعطفيها هزّة عنيفة لم يكن ينتظر صدورها من حسناء غيداء مثلها، وكان ذلك منها وهي منفردة في زاوية المصطلى، أمام النار الخامدة، إذ ناجت نفسها بقولها :
«هو ذا! إن ما تظمأ إليه نفسي إنما هو الحب! » .

حملت الرواية بعدًا ذاتيًا خفيًا، إذ استلهم فرانس بطلتها من علاقته بعشيقته الشهيرة مدام دي كاياڤيه، المرأة التي لعبت دورًا مركزيًا في حياته الخاصة والفكرية. هذا البعد جعل بعض معاصريه ينظرون إلى النص كنوع من الاعتراف المقنع أو التوثيق العاطفي، وهو ما أثار لغطًا حوله في الصحافة الأدبية آنذاك. ومع ذلك لم تكن الضجة على قدر ما أثارته نصوص أكثر صدامية في ذلك العصر، لكن اعتُبرت الرواية عملًا أنيقًا يزاوج بين التحليل النفسي والواقعية الاجتماعية، رغم أنها لم تسلم من اتهامها بالانغماس في الرومانسية الحسية.

ظل الفرنسي أناتول فرانس طوال حياته بين كاتبين، كاتب يُجيد فن الحكاية ويمنحها سحر اللغة، وكاتب يضع الحكاية نفسها في قلب التاريخ الحيّ ليجعل منها وسيلة مساءلة ونقد. وفي عمله “الزنبقة الحمراء” تحديدًا، اجتمعت الحكاية التي تشبه اعترافًا شخصيًا، والموقف الذي يُفصح عن رؤية أوسع للإنسان في صراعه مع ذاته ومجتمعه. ولعل هذا ما جعل الرواية تحتفظ براهنيتها.


•موسيقى:🎶

video preview

أودعك بموسيقى لترتيلة أرمنية تتمازج فيها نغمات الناي مع ارتعاشة العود برقة، موسيقى صارت مرآة لروح شعب بأكمله. يُروى أن كوميتاس الموسيقار والملحن والمؤرخ الموسيقي الأرمني، وُلد عام 1869 وكان قسيسًا وناشطًا ثقافيًا، حين كان يُساق إلى الاعتقال مع مجموعة من المثقفين الأرمن خلال مأساة الإبادة الجماعية، أنشد هذه الترتيلة «يا رب ارحم». صوته غمر المكان فتوقف الجنود عن السير صامتين، مستمعين إلى صدى صوته الذي ظل خالدًا في ذاكرة الأرمن. كوميتاس كان موسيقارًا وحارسًا لتراث موسيقي ضاع لولا جهده في جمع الأغاني الشعبية والتراتيل الأرمنية، موثقًا تراثًا غنيًا أصبح فيما بعد علامة من علامات الهوية الأرمنية.

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

بلطجة المثقفين🔍🔖 عبير اليوسفي ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥ من النادر أن يجتمع كاتبان في مقهى دون أن يختبئ في أحدهما ظل خصومةٍ ما، قديمة أو مؤجلة. فالتاريخ الأدبي منذ بداياته، كان مسرحًا مفتوحًا للعداوات المعلنة والخفية بين كُتّابه؛ كأن الإبداع لا يكتمل إلا في حضور خصمٍ ما، أو أن القلم لا يصفو إلا على حافة الغيرة. وفي زمن مضى كان الأدباء يتبادلون الهجاء والنقد اللاذع كما لو أن الكتابة ميدان صراع، وأن الجمال لا يُولد إلا من وسط العداء. في الأدب العربي لا يغيب عنا صدامات العقاد وطه حسين، وما تركته من جروح في...

عشرة كتب لا تكفي 📚😱 عبير اليوسفي ١٥ أكتوبر ٢٠٢٥ مؤخرًا انتشر على منصة إكس ترند يحمل تغريدة تقول:«عرف نفسك بعشرة كتب». للوهلة الأولى يبدو الأمر لعبة عابرة أو تمرينًا على التذكر، لكنه يخفي ما هو أهم من ذلك. كدت أشارك فيه، لولا أن الحيرة أوقفتني: كيف يمكن أن أختزل ذاتي القرائية في عشرة كتب؟ كيف أحصر أثر ما قرأته، وما غير فيّ، والنفس ليست ثابتة أصلًا؟ يبدو وكأننا نحاول رسم ملامح وجهٍ يتبدل باستمرار، لا يستقر على ملامح واحدة. فالقراءة نفسها ليست فعلاً خطيًا، هي تراكم متشابك من لحظات، وحوارات،...

نوبل التي لا تطاق ⏳🎖️ عبير اليوسفي ٨ أكتوبر ٢٠٢٥ كانت هناك خرافة طريفة يرددها ماركيز هي أن نوبل تمنح غالبًا لمن سيموت قريبًا. قال: من بين 75 فائزًا، ظل 20 فقط على قيد الحياة بعد الجائزة، كأن الاعتراف العظيم لا يُحتمل طويلًا. وهي خرافة لم تثبتها الإحصاءات، لكنها تكشف خوف الأدباء من المجد ذاته، وأن يكون الاعتراف نهاية الطريق لا بدايته. منذ أكثر من قرن، والعالم الثقافي يعيش على إيقاع هذا الطقس الخريفي الذي يبدأ في ستوكهولم. اسمٌ يُعلن، فتضج به الصحف والدنيا، ثم يخفت الضوء شيئًا فشيئًا، لكن ماذا...