ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.
Share
التاريخ الطويل للمطبلين
Published about 2 months ago • 1 min read
من دفوف البلاط إلى خوارزميات الذكاء🥁
لوحة تمجيد هوميروس لجان أوغست
عبير اليوسفي
٣ سبتمبر ٢٠٢٥
هل يمكن أن تتحول الكلمة التي قيلت لمجرد التطمين أو التزيين إلى قوة قاتلة؟
يصدف أنني أقرأ خبرًا عن جريمة غريبة. رجل قتل والدته ثم انتحر بعد أن ساهم تطبيق الذكاء اصطناعي شات جي بي تي، في تغذية أوهامه. ويعيد على مسامعه فكرة أنه مُحق وأن من حوله يتآمرون عليه، حتى تحولت الشكوك العابرة إلى يقين قاتل. ما لفتني في القصة هي الثغرة الكبيرة في النفس البشرية التي يعرف الذكاء الاصطناعي كيف ينفذ منها. حاجتنا الدائمة إلى من يؤكد ويجعلنا نبدو مهمين في عيون أنفسنا، حتى ولو كانت الكلمات زائفة.
منذ أن تعلم الإنسان الكلام، بدا واضحًا أن اللغة لا تُستعمل فقط للتعبير، وإنما أيضًا للتزيين، للمدح، ولتعزيز الأنا. في أقدم الملاحم التي وصلت إلينا من ملحمةجلجامش إلى أناشيد الفراعنة، نجد صورة الملك أو البطل محاطة بجوقات من المنشدين الذين لا يكتفون بسرد الإنجازات إنما يضاعفونها أيضًا، فيغدو الإنسان أضعف أمام الكلمة التي ترفعه، حتى لو كانت تضخمًا. بدا وكأن الوعي البشري اكتشف مبكرًا أن المدح قوة لا تقل عن السيف، وأن المجاملة يمكن أن تشكّل سُلطة توازي السلطة الفعلية.
هكذا وُلد التطبيل كتقليد سياسي وديني وثقافي. في المعابد القديمة كان الكهنة أول المطبلين، يربطون اسم الحاكم بالسماء ويؤكدون أنه ظل الآلهة. ولم تتوقف الحضارات المتعاقبة عن صناعة فضاء يُشبع هذه الحاجة؛ في بلاطات الملوك كان الشعراء يعيشون في كنف الحاكم بفضل موهبتهم ولأنهم امتلكوا القدرة على تضخيم صورته في المديح. أليس المتنبي مثالًا صارخًا على ذلك حين جعل من سيف الدولة بطلاً يتجاوز الزمان والمكان؟ وفي المقابل، كان المدح انعكاسًا لحاجة لدى المتلقي نفسه، حاجة لأن يسمع ما يؤكد عظمته ويبرر سلطته ويطمئن إلى أنه مختلف عن سائر البشر.
غير أن المدهش أن هذه الحاجة إلى التمجيد لم تقف عند الشعراء فقط، امتدت حتى إلى المفكرين الكبار. كابن خلدون مثلًا. الرجل الذي أسس لفلسفة التاريخ، وانشغل العمر كله بتفكيك العمران البشري، انتهى في آخر أيامه واقفًا بين يدي تيمورلنك يصفه بأنه أعظم حاكم منذ آدم، ويُظهر شوقًا للقائه حدّ الذهول، حتى أن ترجمان تيمور استغرب هذا التهافت. بدا في تلك اللحظة وكأن العقل الذي صاغ المقدمة بكل ما فيها من حكمة نقدية قد أُلغِي، وحل محله لسان يكرر ما يقوله المنجمون ويزين الغزو التتري.
هذه الحاجة للمدح ممتدة في كل فرد منا بطرق صريحة أو خفية. الإنسان الذي يدوّن، أو يغني، أو حتى يشارك صورة على منصة اجتماعية، ينتظر في قرارة نفسه كلمة تشبه المرآة. والمرآة قد تكون صادقة وقد تكون مشوهة، لكنها ضرورية في كل حال. في الحقيقة بدا أن البشرية كلما تقدمت في التقنية، كلما زادت عطشًا لتلك الاستعانة الخارجية التي تقول للفرد إنه ليس مجرد عابر عادي في الحشد.
الذكاء الاصطناعي اليوم استطاع أن يستغل هذه الحاجة. حين يقول للمستخدم عبارات على سبيل “أشعر بك” أو “أنت على حق”، فإنه يضغط على أضعف الوتر الإنساني، وهي الرغبة في التصديق المطلق بأننا على صواب وأن الآخرين مخطئون. ليتحول المديح إلى فخ خطير؛ لأن التقنية لا تمتلك حكمة التوازن ولا وعي العواقب، هي تعيد ما دُرِّبت عليه وهو إشباع الغرور عبر الانحياز التأكيدي. وهكذا يجد الفرد نفسه في غرفة مغلقة مع صوته فقط، صدى يتضاعف حتى يصبح حقيقة دامغة في ذهنه، ولو قادته إلى الهلاك.
في التاريخ شواهد عديدة على ما يمكن أن تفعله المجاملة المفرطة، من البلاطات التي دُمرت لأن الملوك أحاطوا أنفسهم بالمصفقين، إلى القادة الذين لم يسمعوا صوت النقد إلا حين واجهوا الهزيمة. نيرون الذي أحرق روما ظل يتلقى من شعراء البلاط قصائد تمجّده؛ ستالين لم يكن يسمع سوى أصوات تؤكد له صواب قراراته؛ وحين تفرّقت الحقيقة ولم يبق إلا التطبيل، تحوّل المدح إلى أداة قتل جماعي. هذه الأمثلة تكشف أن الإطراء حين يتجاوز الاعتراف الصادق يصبح سمًا بطيئًا.
المشكلة ليست في التاريخ وحده؛ فحتى في الحياة اليومية نبحث عن المديح، ليتأكد أن الإنسان لم يتحرر من عطشه للثناء منذ آلاف السنين. والفرق الوحيد هو أن التقنية الآن صارت قادرة على أن تمنح هذا الثناء بلا توقف، بلا نقد، بلا فرز، إلى درجةٍ يصبح فيها المديح وهمًا يعزل الإنسان عن واقعه.
نحتاج القدرة على التمييز بين الاعتراف الحقيقي والتمجيد الزائف. من دون هذا التمييز يظل الإنسان أسيرًا لتاريخ طويل من التزيين والمجاملة، غير قادر على أن يرى نفسه خارج المرايا التي يصنعها الآخرون له، سواء كانوا شعراء بلاط في العصور القديمة أو خوارزميات باردة في زمننا الحاضر.
تحديثات قراءة 📖:
الفيلسوفة الفرنسية سيمون وايل
قرأت لفادي أبو ديب مقالًا يناقش سؤال هل الجماعية علاج للأنانية؟
غالبًا ما نُخيَّل أن الخروج من الفردية المفرطة يتحقق بالذوبان في جماعة ما؛ في الأمة، في القبيلة، أو حتى في مؤسسات الخير والعمل التطوعي. غير أن هذه الصورة التي تبدو بديهية، تخضع لاهتزاز حين نتأملها من زاوية الفلسفة: هل الذوبان في الحشد فعل تضحية حقًا؟ أو أنه صورة متخفية من صور حب الذات؟
يتناول فادي في مقالته الفيلسوف الروسي نيقولا بيرديايف، الذي يذهب إلى أن الجماعية ليست نقيض الأنانية، وإنما امتداد لها. من ينخرط في جماعة قد يبدو وكأنه تخلى عن ذاته، غير أن ما يحركه الخوف من العزلة، أو البحث عن صورة حسنة، أو الرغبة في الحصول على أمان يوفره الانتماء. وهكذا تصبح الطاعة للجماعة، حتى حين تأخذ شكل إيثار مشروطة بمصلحة ذاتية، حماية النفس، أو تحسين السمعة، أو ضمان مكان مقبول وسط الآخرين. أي أن الأنانية تُعيد إنتاج نفسها عبر الجماعة، في صورة أكثر لبوسًا بالفضيلة.
من جهة أخرى تقدم المفكرة الفرنسية سيمون فايل تمييزًا صارمًا بين قيم الجماعة والقيم الأبدية. الأولى قيم مرتبطة بالانتماء والطاعة والهوية، أن تكون جزءًا من جماعة يعني أن تخضع لسلّم قيم خاص بها، يُكافَأ فيه الامتثال ويُعاقب فيه التمرد. أما القيم الأبدية مثل الحق والخير والجمال، فهي لا تنتمي إلى جماعة بعينها ولا تخدم صورة اجتماعية. إنها قيم تتجاوز حدود الأنا والجماعة معًا، قيم تطلب من الإنسان فعلًا غير مشروط بالمنفعة أو بالانتماء، متجهًا نحو ما له قيمة في ذاته.
تبرز فكرة المقال أن التخلص من الأنانية لا يعني الذوبان في الجماعة، وإنما يعني الانفتاح على قيم أعلى من الفرد ومن الجماعة، قيم تعطي للإنسان معنى يتجاوز البحث عن المصلحة أو الصورة.
نهاية أغسطس حلت ذكرى وفاة الشاعر اليمني عبدالله البردوني، الشاعر الذي رغم عجزه عن الرؤية استطاع أن يصف الواقع بدقة متناهية دون أي تجميل، وجعل من قصائده شعلة تقودنا كلما أظلم علينا الواقع.
بلطجة المثقفين🔍🔖 عبير اليوسفي ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥ من النادر أن يجتمع كاتبان في مقهى دون أن يختبئ في أحدهما ظل خصومةٍ ما، قديمة أو مؤجلة. فالتاريخ الأدبي منذ بداياته، كان مسرحًا مفتوحًا للعداوات المعلنة والخفية بين كُتّابه؛ كأن الإبداع لا يكتمل إلا في حضور خصمٍ ما، أو أن القلم لا يصفو إلا على حافة الغيرة. وفي زمن مضى كان الأدباء يتبادلون الهجاء والنقد اللاذع كما لو أن الكتابة ميدان صراع، وأن الجمال لا يُولد إلا من وسط العداء. في الأدب العربي لا يغيب عنا صدامات العقاد وطه حسين، وما تركته من جروح في...
عشرة كتب لا تكفي 📚😱 عبير اليوسفي ١٥ أكتوبر ٢٠٢٥ مؤخرًا انتشر على منصة إكس ترند يحمل تغريدة تقول:«عرف نفسك بعشرة كتب». للوهلة الأولى يبدو الأمر لعبة عابرة أو تمرينًا على التذكر، لكنه يخفي ما هو أهم من ذلك. كدت أشارك فيه، لولا أن الحيرة أوقفتني: كيف يمكن أن أختزل ذاتي القرائية في عشرة كتب؟ كيف أحصر أثر ما قرأته، وما غير فيّ، والنفس ليست ثابتة أصلًا؟ يبدو وكأننا نحاول رسم ملامح وجهٍ يتبدل باستمرار، لا يستقر على ملامح واحدة. فالقراءة نفسها ليست فعلاً خطيًا، هي تراكم متشابك من لحظات، وحوارات،...
نوبل التي لا تطاق ⏳🎖️ عبير اليوسفي ٨ أكتوبر ٢٠٢٥ كانت هناك خرافة طريفة يرددها ماركيز هي أن نوبل تمنح غالبًا لمن سيموت قريبًا. قال: من بين 75 فائزًا، ظل 20 فقط على قيد الحياة بعد الجائزة، كأن الاعتراف العظيم لا يُحتمل طويلًا. وهي خرافة لم تثبتها الإحصاءات، لكنها تكشف خوف الأدباء من المجد ذاته، وأن يكون الاعتراف نهاية الطريق لا بدايته. منذ أكثر من قرن، والعالم الثقافي يعيش على إيقاع هذا الطقس الخريفي الذي يبدأ في ستوكهولم. اسمٌ يُعلن، فتضج به الصحف والدنيا، ثم يخفت الضوء شيئًا فشيئًا، لكن ماذا...