الناشر بين الكاتب والقارئ 🖨️💡
قبل أيام، صادفت تغريدة تقول: “الكاتب يكتب الكتاب، أما القارئ فهو من يُبقيه حيًا.” وقد بدا لي هذا القول ناقصًا، فتساءلت: أين الناشر من هذه المعادلة؟
تُعدّ صناعة النشر أحد أهم المفاصل الحاسمة في المشهد الثقافي المعاصر، نظرًا لما تقوم به من دور وسيط بين الكاتب والقارئ. ومع أن العلاقة الظاهرة بين هذين الطرفين تبدو مباشرة، إلا أن الناشر يمثّل عنصرًا مركزيًا في تشكيل هذه العلاقة وتوجيهها. فمن خلال ما يختاره للنشر وما يرفضه، وما يعيد صياغته وتقديمه للسوق، يُمارس سلطة لا تقل تأثيرًا عن سلطة الكاتب ذاته.
من الناحية الإجرائية، لا يمتلك الكاتب سلطة نشر نصّه بمعزل عن مؤسسة النشر التي تُحدد بناءً على معايير اقتصادية وجمالية وتسويقية، ما يستحق المرور إلى القارئ. في المقابل لا يطلع القارئ على الكتاب إلا بعد اجتياز النص لعدة مستويات من التصفية والتحرير والتقييم. بذلك يتوسط الناشر هذا الثالوث المقدّس (الكاتب – الناشر – القارئ)، بوصفه المصفاة التي تُعيد تشكيل الذوق العام، وتحدد ما يُعرض على الفضاء القرائي العام.
في كتاب "قواعد الفن" ينقض بيير بورديو التصورات الرومانسية عن الكاتب الحرّ والقارئ النقي، موضحًا أن العمل الأدبي ليس نتاج عبقرية فردية خالصة، هو نتيجة شبكة من القوى المتداخلة يتوسطها الناشر بوصفه فاعلًا مركزيًا في الحقل الثقافي. الناشر لا يُنتج النص، لكنه يحدد شروط ظهوره وتقديمه ويمنحه شرعية رمزية تسمح له بالدخول إلى ما يسميه بورديو الفضاء الأدبي المشروع.
أصبح النشر الآن فعلًا مشبعًا بالتحيزات الثقافية والسياسية والاقتصادية، وليس مجرد عملية محايدة. فما يُنشر يعكس ما يُقبل في إطار مجموعة من التفضيلات الظاهرة والمخفية التي تمارس نوعًا من التصفية الرمزية للنصوص. كل قرار بنشر عمل ما يُعد تمييزًا، وكل استبعاد يُعتبر إقصاء لقيمة معينة. ومن هنا يتجلى ما يسميه بورديو بـ”رأس المال الرمزي”، أي القيمة غير الاقتصادية التي يحملها العمل الأدبي ضمن مجاله الخاص. لكن هذا الرأسمال غالبًا ما يدخل في صراع مع رأس المال الاقتصادي، في محاولة لإرضاء السوق. وبما أن الناشر يتحرك ضمن هذا التوتر، فهو لا يعود مجرد وسيط، بقدر ما يصبح حاملًا لسلطة مزدوجة، هي سلطة التقييم وسلطة الاستثمار.
يتحوّل الناشر في هذا الإطار إلى حارسٍ على أبواب الشرعية الأدبية، يختار من يدخل ومن يُقصى. وما كان يُنظر إليه سابقًا كوسيط تقني، أصبح اليوم فاعلًا ثقافيًا يملك القدرة على التأثير في تعريف الأدب ذاته، وتحديد معاييره وموقعه.
أشار أندريه شيفرين إلى هذا التحوّل في كتابه "المال والكلمات" حين تحدث عن ضغوط الشركات الكبرى على الناشرين لاستبعاد النصوص “غير الرائجة”، بغض النظر عن قيمتها الثقافية. ومع دخول منطق السوق النيوليبرالي إلى الحقل الأدبي، بات الناشر مُطالبًا بتحقيق معادلة عسيرة هي الحفاظ على الجودة من جهة، وتحقيق الربح من جهة أخرى. ومعظم دور النشر لم تعد قادرة على التوفيق بين هذين القطبين، فانحازت إلى ما يطلبه السوق على حساب ما تحتاجه الثقافة.
في المقابل، يطالب عدد متزايد من الناشرين الكُتّاب بإعادة هيكلة نصوصهم لتتوافق مع تصورات مسبقة عن السوق أو عن القراء المفترضين. فيتحوّل الكاتب من خالق حر إلى مورد يجب تكييف إنتاجه بحسب احتياجات التوزيع. وعلى الطرف الآخر يتلقى القارئ النص بوصفه سلعة مصممة وفق آليات تسويقية موجهة، تُكرس نمطًا استهلاكيًا قارًّا، وتُقلص من فرص التنوع والتجريب والاختلاف.
تزداد حدة هذه الإشكاليات في العالم العربي، حيث يعاني النشر من اختناقات متعددة أهمها غياب الدعم المؤسسي، الرقابة، ارتفاع التكاليف، تراجع القراءة، إلى جانب هيمنة المحتوى الرقمي السريع. ضمن هذا، برزت بعض دور النشر المستقلة التي تحاول مقاومة هذه الضغوط، عبر تبني سياسات نشر تقوم على القيمة المعرفية للنصوص لا على قابليتها للبيع، في محاولة للعودة إلى دور الناشر كفاعل ثقافي.
لم تعد العلاقة بين الكاتب والناشر والقارئ قائمة على توازن متكافئ. بل أصبح الناشر يمتلك سلطة تقريرية تمتد إلى تشكيل النص نفسه وتحديد شروط استهلاكه. وهو ما يطرح أسئلة عن مصير حرية التأليف و استقلالية القراءة، في ظل تحول الفعل الثقافي إلى نشاط اقتصادي محكوم بمنطق السوق، أكثر من أي وقت مضى.
توصية قراءة:📚
يُعد كتاب "المال والكلمات" لأندريه شيفرين، أحد الكتب التي تناولت التحولات الطارئة على صناعة النشر، خصوصًا في العالم الغربي مع صعود منطق السوق وهيمنة الشركات الكبرى على المجال الثقافي. يستعرض شيفرين الذي يُعد من أبرز الناشرين المستقلين في فرنسا والولايات المتحدة، كيف تحولت دور النشر من مؤسسات ذات رؤية ثقافية إلى كيانات تجارية تسعى خلف الربح أولًا، على حساب التنوع، والجودة، والجرأة الفكرية.
يناقش بتوسع كيف أن القرارات التحريرية باتت تخضع لمعايير الربحية، وأن كثيرًا من الكتب المهمة لا تجد طريقها إلى النشر لأنها لا تُدرّ أرباحًا متوقعة. كما يتحدث عن ضغوط المعلنين، وتقلص مساحة الصحافة الثقافية، وتراجع التوزيع المستقل، واندماج دور النشر الصغيرة في كيانات تجارية ضخمة. ويقدم في فصوله تحليلًا دقيقًا لتاريخ هذه التحولات، ومقارنة بين تجارب النشر في أوروبا وأميركا، مقترحًا في الوقت ذاته بدائل تحافظ على حرية التعبير والتعددية الفكرية.