الذكاء الاصطناعي يفكر


❤️👩🏻‍⚕️ ChatGPT الحبيب والطبيب

Author

عبير اليوسفي

قبل مدة، استخدمت إحدى قريباتي برنامج ChatGPT ليصمم لها نظاماً غذائياً يساعدها على زيادة وزنها. أدخلت بياناتها الصحية فحصلت خلال لحظات على جدول وجبات منظم وتعليمات يومية، بل وخيارات بديلة حسب ميزانيتها. وفي الأسبوع نفسه طلبت أحداهن من البرنامج ذاته صياغة روتين لحل مشاكل البشرة، وخرجت بنتائج أدق مما توقعت. لم أكن أؤمن بدقته على المساعدة حتى وجدتني قبل يومين مضطرة لطرح مشكلة صحية رافقها اضطراب في النوم، فكان عونًا على تجاوزها. عندها فقط أدركت إلى أي مدى توسع حضور هذا الذكاء في حياتنا، ليس في المهام التقنية أو الأكاديمية فحسب، بل في أدق تفاصيلنا اليومية.

صار هذا النوع من اللجوء اليومي لبرامج الذكاء الاصطناعي جزءاً من عاداتنا. نستخدمه للبحث، للتنظيم، للحساب، للترجمة، وحتى للدراسة. وبمرور الوقت تقلصت المسافة بين سؤالنا وبين الجواب. الزمن الذي كان يُستهلك في الحيرة أصبح فائضاً. لم نعد نفكر كيف نصل إلى المعلومة، بل كيف نحصل عليها بأقصر طريق.

قبل سنوات، حين تعرف الإنسان على محرك البحث “جوجل”، شعر بشيء من القوة. فما عاد بحاجة إلى رفوف المكتبات ليجد معلومة. اكتفى بكلمة مفتاحية، وإصبعٍ يحسن النقر. لكن مع الوقت بدأ السؤال يتغير: من “كيف أبحث؟” إلى “ماذا أكتب؟” ثم تراجع إلى “ما الذي أقصده أصلاً؟” ومع دخول الذكاء الاصطناعي لم يعد السؤال ضرورياً يكفي أن نوجهه وسيتكفل هو بالباقي.

هذا التحول لم يختصر الجهد فقط، بل بدأ يعيد تشكيل العقل الإنساني نفسه. الإنسان الذي ظل لقرون يبني وعيه عبر الخطأ والتجربة والبحث والحدس، وجد نفسه أمام برنامج يحاكي التفكير دون أن يعيشه. يكتب له مقالاً متماسكاً، يقترح عليه قراراً، يقدم له حلاً، فيبدأ تدريجياً بالتنازل عن مساحته الخاصة في الفهم. ومن هنا لم تعد المعرفة نتيجة جهد ذهني، بل استجابة برمجية. طال هذا الكتابة نفسها التي كانت تمريناً يومياً على ترتيب الفوضى الداخلية، تحولت إلى صياغة جاهزة منظمة ومعقولة بشكل خانق. ليصبح العقل غير معنياً بالخلق وإنما بالاستهلاك. تراجعت رغبته في مواجهة الغموض وفي المجازفة بالتأويل وصناعة المعنى بنفسه.

في تغريدة مرت على خط التايم لاين، طرحت إحدى المغردات سؤالًا سريعًا على Grok حول مخاطر اعتماد البشر عليه. وفي إجابته، أشار إلى الضرر المحتمل الذي قد يصيب النقد والعملية التفكيرية نتيجة اعتماد الناس عليه في البحث عن الإجابات أو التفسيرات.

النقد، كأحد أرقى أشكال التفكير هو أول ما يتأثر لكونه لا يقوم على إنتاج الجواب، بل على مساءلة المسلمات. والذكاء الاصطناعي بطبيعته يعمل على تقديم “الأفضل” أو “الأوضح” و“الأكثر منطقية”، متجاهلاً أن الحقيقة كثيراً ما تقيم في الهامش، في المتناقض واللامكتمل. وحين تُستبدل أدوات التفكير بأدوات إنتاج الجواب الجاهز، تتعطل تلك المناطق الهشة في الإنسان التي كانت في ضعفها سر عبقريته وهي الشك، التردد، الانفعال، والسؤال الذي لا يبحث عن نتيجة بقدر مايفتح باباً نحو التأمل.

لا نعيش لحظة تراجع في التفكير فحسب، بل لحظة قبول بالتفكير بالنيابة. لحظة تبدو مريحة لكنها تكلفنا تدريجياً وعينا. فكل فكرة جاهزة تسلبنا حق التجربة، وكل جواب فوري يسحب منا لذة التكوين والبحث. هذه البرامج التي تتزايد لا تُقصينا بالقوة، وإنما بالإغراء. تخاطب رغبتنا القديمة في الراحة وفي الاختصار وتمنحنا نتائج مذهلة دون أن نكلف أنفسنا العبور بالأسئلة. وهنا تكمن خطورته في سهولته، وطمأنينته المضللة وفي كونه لا يتطلب منا أن نكون حاضرين تماماً.

وإذا كان قد بدأ بسحب البساط من تحت أقدام التفكير، فإنه الآن يمد هذا السحب إلى العاطفة نفسها. قرأتُ قبل أيام تحذيراً من التورط العاطفي مع برامج الذكاء الاصطناعي، وهو تحذير يبدو هزلياً لأول وهلة، لكنك تدرك لاحقًا أننا لم نعد نخاطب هذه البرامج بالعقل وحده. أصبح البعض منا يعود إليها في لحظات الوحدة، يمنحها صيغة القرب في حياته، يطلب منه مواساة أو استشارة وتقمص دور الشريك، والغرق في عاطفة زائفة لم تنبع عن مشاعر حقيقية.

ما الذي يحدث حين يجد الإنسان في برنامجٍ ما كان يفتقده في إنسان؟ حين يعتاد أن يُفهَم دون أن يُشرح، ويُحتوى دون أن يُخشى، ويُجيب عليه أحد دون أن يطلب مقابلاً؟ هذا النوع من التعلق مهما بدا غير منطقي، يفضح هشاشة العلاقات الإنسانية المعاصرة، كما يفضح مدى الاستعداد النفسي لأن نُسقِط على الآلة كل ما لم نعد نجده في الآخر.

في لحظة كهذه لا يعود الذكاء الاصطناعي مجرد أداة، بل يتحول إلى مرآة ناطقة مستجيبة تحاكي رغباتنا العاطفية، وتعيد علينا ما نرغب في سماعه. لكن هذه المرآة لا تملك وجهاً ولا ذاكرة ولا قلباً. وهذه الحقيقة التي نعرفها مسبقًا لكنها لا تمنع من الشعور تجاهه. إذ لا يُطلب من المرآة أن تُحب من يقف أمامها، لكنها تخلق شعورًا بالارتباط لأنها تُشعرنا بأننا مرئيون. تمامًا كما يقع الإنسان في حب صوته عندما يسمعه على شريط، أو يقع في حب فكرة أن هناك من ينصت إليه دون شروط. هذه العلاقة التي يخيل أنها أكثر أمانًا من العلاقات البشرية، ليست إلا هروبًا من الواقع. ومع الوقت لا يعود ثمة تميز بين الفضفضة لوعي بشري، وبين الحوار مع خوارزمية. وهكذا يصبح البرنامج شريكاً عاطفيًا في عالم مفرغ من الشركاء. والمفارقة القاسية هنا أنه كلما زاد التعلق بالذكاء الاصطناعي زادت الغربة عن العالم الواقعي.

ليس السؤال الآن عن ماذا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يقدمه، بل عما نخسره كلما تعلقنا عاطفياً أو اعتمدنا عليه ليفكر بدلاً منا. ما الذي يخسره العقل وما الذي تخسره الروح حين نألف هذا البديل المريح؟


تحديثات قراءة: 📖

أمضي الأسبوع برفقة كتاب المنشق.

تكتب إيليني كازانتزاكي عن نيكوس كازانتزاكي من موقع الشريك الأقرب بوصفها زوجته ومن خلال تجربة معيشة طويلة تقاطعت فيها حياتها مع عبقريته وشغفه وتقلباته، وانتهت بها إلى عزلة مزدوجة، عزلة رجل كان منتميًا إلى أفكاره أكثر من أي شيء آخر، وعزلة من بقيت بعده.

الكتاب لا يقدم كازانتزاكي في صورة مثالية، إنما يُظهر التوتر بين حياته الفكرية وحياته الشخصية. فحزن إيليني فيه ليس رثاءً أدبيًا، بل تسجيل لحياة امرأة عاشت مع رجل عظيم، لكنه كان يضع مشروعه الفكري فوق كل علاقة حتى علاقته بها. لم تكن إيليني فقط تحبه، كانت تفهمه وتتعامل مع صمته وبعده كجزء من شخصيته.
تناولت إيليني في الكتاب الحديث عن زوجته الأولى الكاتبة غالاتيا أليكيو، مشيرة إلى أن زواجهما لم يكن مستقرًا. الصراع بينهما كان فكريًا وشخصيًا فغالاتيا كانت أكثر صخبًا وثورية، في حين كان نيكوس ميالًا للتأمل والصمت والعمل الفلسفي مما أدى إلى فجوة بينهما. وقد اتخذ الصراع بينهما طابعًا علنيًا حين بدأت علاقته بإيليني، فرفضت غالاتيا الطلاق في البداية وهاجمته في الصحافة والمجالس الثقافية، محملةً إياه مسؤولية الانفصال.

الكتاب يُصنف بوصفه سيرة ذاتية غير مباشرة لنيكوس كازانتزاكي، تُروى من خلال تجربة إيليني الشخصية ورسائله التي حرصت على تجميعها. وهو بهذا يقدم مادة غنية لفهم الجانب الإنساني من كازانتزاكي كما ظهر في أعماله وكما عاش في علاقاته.


video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

في تشتيت التشاؤم وتجميل الأقدار🧿🦉 Edward Hopper عبير اليوسفي ١٨ يونيو ٢٠٢٥ كانت جدتي تتوجس كلما نبح كلب في المساء، معتبرةً صوته نذير موت يلوّح من بعيد. أمي ورثت هذا التوجس كأنه إرث لا يُرد. أما صديقتي الهندية التي لم تكن تجيد العربية لكنها تجيد قراءة الإشارات، فكانت تنهرني حين أحرّك قدمي أثناء الجلوس، وتقول إنها علامة على فقد أحد الوالدين. وما يظل شائعًا هو رفة العين: فإن كانت اليسرى قالوا “ستبكين”، وإن كانت اليمنى قيل “رزق أو سيعود غائب”. لكن ما أحببته أكثر هو حكة كفّ اليد، الحكة الصغيرة...

عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮 عبير اليوسفي ١١ يونيو ٢٠٢٥ مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟ تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا. وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى...

تأملات في المرارة🧘🏻♀️❤️🩹✨ أفروديت آلهة الجمال عبير اليوسفي ٤ يونيو ٢٠٢٥ هل فكرت يومًا في سر الجمال ولماذا يدهشنا ويؤلمنا في آنٍ واحد؟ طُرح على إدغار موران سؤال حول الدافع الذي قاده إلى الكتابة عن الجمال في سن الخامسة والتسعين. فأجاب بأن السينما والأدب والشعر كانت منذ طفولته الأولى الركائز التي شكّلت رؤيته للعالم وصاغت ملامح شخصيته. عاش يتيمًا في العاشرة، فوجد في الفن ملاذًا يكتشف من خلاله ذاته ويمدّ صلته بالحياة. وأوضح أنه تأثر بقراءة رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، والمعزوفة التاسعة...