معاناة المرأة الكاتبة🤷🏻♀️💬📋
عبير اليوسفي
٢٤ سبتمبر ٢٠٢٥
واحدة من السير الأدبية التي أثرت فيّ قراءتها قبل سنوات كانت سيرة سيلفيا بلاث، تلك المرأة التي صارت رمزًا لتجربة الكتابة من داخل الجرح. جاء موتها بصورة غريبة ميلادًا جديدًا لأدب نسوي ظل مختنقًا خلف جدران الصمت. فحين أوصدت باب المطبخ بإحكام، وفتحت الغاز في صباح بارد من فبراير 1963، فتحت نافذة واسعة لوحش كامن في الذاكرة الجماعية للنساء. وهو أن تكوني امرأة وتكتبي عن الألم لتعريه. كان يُفترض أن تمر سيلفيا كأي موهبة مأزومة، غير أن موتها رفض أن يُمحى. أخذت مكانها في قاعة أصوات النساء اللواتي كتبن من على حافة السكين.
يميل النقاد إلى قراءتها كضحية؛ امرأة هشة سقطت في هوة الاكتئاب وانهارت تحت ثقل أعباء الأمومة والموهبة الملعونة. لكن هذه القراءة رغم واقعيتها، تُغفل أن بلاث صنعت من وفاتها حدثًا أدبيًا، وحولت النهاية إلى مرآة عاكسة للذات الأنثوية في أزمتها وانهيارها، لهذا كان كبيان احتجاجي بلغة لا تُنسى. ومنذ لحظة غيابها الجسدي، بدأ صوتها يعلو في أماكن لم تصل إليها حيّة، وأصبح يعبر عن هشاشة المرأة المبدعة حين تُحاصر بين حبها وحلمها، بين أمومتها ومشروعها. بعد بلاث صار الأدب النسوي أكثر صدقًا، وأكثر فتكًا بكل الأقنعة التي ارتدتها النساء ليبدون مقبولات في عالم لا يحتمل ألمهن الحقيقي. وتحولت روايتها الوحيدة الناقوس الزجاجي إلى وثيقة نفسية، اجتماعية، تحفر في جدار الصمت الأنثوي.
امرأة تنهار بصمت داخل عالم لا يسمع سوى صوته. هذا ما التقطته آن سكستون حين قالت في رثائها لصديقتها: «هذا الموت لي». فقد فهمت أن ما حدث لم يكن نهاية امرأة، لكن كان بداية عهد جديد من الكتابة النسوية. ومنذ ذلك الحين تغير وجه الأدب النسوي. لم تعد النساء يكتبن من وراء الحجاب الرمزي للخجل أو التهذيب، لأنه ظهرت أصوات جديدة، جريئة مسكونة بنفس الروح المعذبة، تحمل ميراث بلاث باعتباره شرارة.
يمكن اعتبار بلاث من زاوية فلسفية نموذجًا للوجود المتصدع، ذاك الذي لا يملك رفاهية الصمت، ويجعل من الكتابة أداة لقول ما لا يُقال. كتبت ألمها وغضبها ووحدتها، وخرجت من حدود الأنثى النموذجية التي يرضى عنها الأدب المهيمن.
لكن لا يمكن الحديث عن صوتها دون الصدى الذي كان يُخنقه. في الخلفية تلوح ظلال تيد هيوز، كشاعر وكزوج وقوة أدبية واجهتها في تفاصيل يومها ونصوصها وجسدها. عاشت صراعًا معقدًا مع حبها الكبير الذي تحول تدريجيًا إلى قيد إبداعي. فكانت تكتب ضد حضوره الطاغي، وضد كونه الصوت الشرعي بينما يُطلب منها الصمت.
مأساة سيلفيا وتيد كانت تمثل مسرحًا لصراع أكبر من كونه قصة رومانسية، هذا الصراع يعيد إلى الأذهان حكاية زيلدا فيتزجيرالد، التي ذابت تحت ظل سكوت زوجها الكاتب، الذي استعار مذكراتها ليُثري بها شخصياته. كلاهما سيلفيا وزيلدا، عاشتا الصراع ذاته، الكتابة في حضرة رجل يُطالب بالهيمنة على النص والسرد والتاريخ.
لكن سيلفيا بخلاف زيلدا لم تترك نصوصها تُسرق دون مقاومة. كتبت غضبها وسمّمت هواء القصيدة باليأس. لتصبح المرأة ذاتًا كاتبة تحتج وتفضح التواطؤ الثقافي الذي يُلبس الحب ثوب السيطرة.
ومع صعود التيار النسوي في سبعينيات القرن العشرين، بدأت قراءة جديدة لبلاث تظهر. بعيدًا عن أن تكون شاعرة مأزومة، لكن كشاهدة على عصر ضاق بالنساء الكاتبات. ناقدات نسويات مثل إلين شووالتر وساندرا جيلبرت قرأن الناقوس الزجاجي كبيان نسوي مبكر، لا كسيرة ذاتية فحسب. أصبح الاكتئاب فعلًا سياسيًا، وأصبح الجرح مشروعًا نقديًا. المؤسف أنها لم تشهد هذا الاعتراف في حياتها. وكأن المجتمع لا يسمع صوت المرأة إلا بعد أن تصمت إلى الأبد. لقد احتاجت أن تموت كي يبدأ صوتها في العبور، واحتاج النقد أن يُعاد بناؤه ليفهم أن المرأة تكتب عن ملايين النساء اللواتي لم يُسمح لهن بالكتابة.
كانت أكثر من شاعرة، كانت بداية لعصر أدبي جديد. عصر لا تخاف فيه النساء من مواجهة أنفسهن، ولا من كتابة الحقيقة مهما كانت مرّة. عصر حول فيه الموت من نهاية إلى بداية، وأُعيد التفكير في معنى الأدب النسوي وقيمته وضرورته. لم تعد نصوص النساء محض انفعالات أو اعترافات عاطفية، لكنها تجارب وجودية. وقد ساهم موتها في إعادة تقييم هذا الأدب بوصفه نسويًا إنسانيًا يكشف ما لا يُقال.
هذا التحول فتح الطريق أمام تغيرات كثيرة منها أنه بدأت الجامعات تُدرس الأدب النسوي، وظهرت الجوائز الخاصة بالكاتبات، وتأسست الدراسات النسوية التي أعادت النظر في الكلاسيكيات المهملة. كاتبات مثل إميلي ديكنسون، آن سكستون، فيرجينيا وولف، أصبحن أعمدة لا تُفهم خريطة الأدب دونهن.
كتبت سيلفيا لتقاوم الذوبان، فذابت. لكنها في ذوبانها تركت أثرًا خالدًا. ألهمت كاتبات من ثقافات متعددة، من أودري لورد التي ربطت بين النسوية والسوداوية، إلى شيماماندا نغوزي أديتشي التي كشفت عن التوتر بين الهوية الأنثوية والمجتمعات الذكورية في إفريقيا، وصولًا إلى بيلا أندرسون وروث أوزكي اللتين كتبتا عن الطبقة والعرق والهوية الجندرية. كلهن حملن الشعلة التي أشعلتها سيلفيا في مطبخها الأخير.
ظلال مكتبة📖:
رواية لن نقدم القهوة لسبينوزا للكاتبة الإيطالية أليس كابالي. توليفة أدبية قدمت سردًا إنسانياً عن الفلسفة والحياة اليومية، الحب، الخسارة، والبحث عن الذات.
تدور أحداث الرواية حول ماريا فيتوريا، امرأة في الأربعينيات من عمرها، تمر بمرحلة صعبة في حياتها الشخصية. تقبل وظيفة كقائمة على شؤون منزل بروفيسور فلسفة كفيف، وتبدأ في قراءة نصوص فلسفية له أثناء قيامها بالأعمال المنزلية. خلال هذه اللقاءات، تنشأ علاقة غير تقليدية بينهما، حيث يتعلم كل منهما من الآخر، ويجدان في الفلسفة وسيلة لفهم حياتهما.
تميزت الرواية بقدرتها على دمج الفلسفة في التفاصيل اليومية، ومن خلال قراءتها لنصوص فلاسفة مثل باسكال، إبيقور، وسبينوزا، تكتشف ماريا فيتوريا كيف يمكن للفلسفة أن تكون أداة لفهم الذات والتعامل مع التحديات الحياتية. يُظهر النص كيف أن الفلسفة هي ممارسة عملية تؤثر في القرارات اليومية والتفاعلات الإنسانية.
استخدمت الكاتبة لغة بسيطة لتظهر كيف أن التفاصيل الصغيرة في الحياة، مثل تحضير الطعام أو ترتيب المنزل، يمكن أن تحمل دلالات فلسفية وتُسهم في نمو الشخصيات.
رواية تدفعك للتأمل والبحث عن الذات .