سحر الجملة الأولى


دهشة البدايات 🧚‍♂️✨🪄

Author

عبير اليوسفي

حين قرأ غابرييل غارسيا ماركيز رواية التحوّل لفرانز كافكا، لم يستطع النوم بعدها. فقد صدمته بقوة غير متوقعة هذه العبارة: «استيقظ غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة، ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة هائلة».كانت الجملة الاستهلالية وحدها كافية لتقويض كل توقع مسبق، ولإعادة ترتيب العلاقة بين القارئ والعالم الروائي. بدت أشبه باختبار لمستوى تأهب القارئ، بين من يواصل التوغل في هذا العالم الغريب ومن يعجز عن مجاراته أمام غرابته.

في أي نص روائي تعد الجملة الأولى لحظة تأسيسية، مشهدية وفكرية في آن واحد. فهي بوابة تمنح القارئ مفاتيح النص كله، وتؤطر المعمار السردي منذ البداية. لذلك يلتفت إليها القارئ بانتباه خاص، وكونها التي ترسم ملامح الأسلوب وتُحدد المزاج، وتبث الإشارة الأولى لما ينتظره من أحداث أو أسئلة.

واحدة من الافتتاحيات الشهيرة آنا كارنينا لتولستوي: «كل العائلات السعيدة متشابهة، أما العائلات التعيسة فلكل منها تعاستها بطريقتها الخاصة.» تبدو العبارة مدهشة لأنها تنفتح نحو فلسفة اجتماعية تقدم رؤية شاملة للعلاقات الإنسانية، وتضع القارئ أمام أسئلة السعادة والشقاء الفردية والجماعية. ونجح تولستوي في منح الافتتاحية مفتاحًا داخليًا للقارئ للتفكير في طبيعة التجربة الإنسانية ذاتها. لكن ما الذي يجعل الجملة الأولى عالقة في الذاكرة؟

علم النفس وعلم الأعصاب يقدمان تفسيرًا مثيرًا. الدماغ البشري يمتلك ما يُعرف بـ أثر البداية وهو الميل إلى تذكر ما نسمعه أو نقرأه أولاً بشكل أوضح من أي عنصر لاحق. كما أن المفاجأة أو الخرق المفاجئ للمألوف يفعّلان مناطق خاصة في الدماغ مرتبطة بالانتباه والعاطفة، مما يجعل الاستهلال لحظة مشحونة بالدهشة والتساؤل. وهذا ما أشار إليه جان بول سارتر حين تحدث عن الوعي المبدئي الذي يخلخل التوقعات ويعيد صياغة الوعي من جديد.

إلى جانب البعد النفسي، تحمل الافتتاحية بعدًا حرفيًا من الصنعة الأدبية. فهل تولد من وحي خاطف أو من اجتهاد مضنٍ؟. تجارب كبار الكُتاب تكشف أنها ليست دائمًا ثمرة إلهام لحظي، فكثيرًا ما تُكتب وتُعاد صياغتها مرات عديدة حتى تبلغ الدقة المطلوبة. فلوبير كان يقضي أيامًا في مطاردة جملته الأولى، وفوكنر أعاد افتتاحيات بعض أعماله أكثر من عشر مرات. وهذا ليس ضعفًا في الخيال، لكنه إيمان بأن البداية هي العقد الذي يُبرم بين الكاتب والقارئ، وأن أي خلل في الصياغة الأولى قد ينسف ما يليها.

من زاوية أخرى للجملة الأولى بُعد سلطوي. هي لحظة يمارس فيها الكاتب هيمنته الأولى على القارئ، يقرر كيف يدخل النص، بأي إيقاع، وأي نغمة، وأي تصور أولي. تبدو كسلطة لغوية غير معلنة لكنها حاسمة، لأنها تضع القارئ منذ اللحظة الأولى أمام قواعد اللعبة السردية. في رواية 1984 لجورج أورويل: «كان يومًا باردًا في أبريل، وكانت الساعات تشير إلى الساعة 13:00.» هنا يجري تثبيت شعور بالغرابة، بالخلل الزمني، قبل أن يبدأ القارئ حتى في استيعاب سياق الديكتاتورية. جملة تفرض قلقًا لا يمكن الفكاك منه.

وإذا وسعنا الدائرة نحو المقارنة الثقافية، سنجد اختلافًا واضحًا بين الرواية الغربية والعربية في التعامل مع الافتتاح. ففي حين أن كافكا وأورويل وماركيز بنوا بداياتهم على الصدمة أو الغرابة أو كثافة الدلالة، فإن روايات عربية مثل موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح تفتتح بروح أقرب إلى الحكي التقليدي: «عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة…» جملة أولى بسيطة، لكنها محملة بظلال الغربة والعودة، وتُدخل القارئ مباشرة في موضوع المنفى والانتماء. أما العملاق نجيب محفوظ، فقد اعتمد في كثير من رواياته افتتاحيات متدرجة، تبدأ بمشهد حيّ واقعي (المقهى، الحارة، الزقاق) لتؤسس للعالم السردي عبر الملموس لا عبر المفاجأة الفلسفية.

يبقى عنصر بالغ الأهمية العلاقة بين البداية والنهاية. فبعض الروايات تخلق تماثلاً أو مفارقة بين الجملتين، لتغلق الدائرة أو تفتحها من جديد. ثمة أعمال تبدأ بجملة توحي بمصير ما، لتعود الخاتمة وتعيد صدى تلك النغمة الأولى، كما لو أن النص أراد القول أن كل ما قرأته لم يكن سوى رحلة من جملة إلى أخرى. تتحول البداية إلى وعد لا يُفهم تمامًا إلا عند النهاية، وتُصبح بوابة نحو أفق لا يُكشف إلا في آخر صفحة.

سر الجملة الأولى التي دائما ماتنجح في جذبي لمواصلة العمل وأعطيها تقدير كبير، يكمن في قدرتها على التوازن بين المفاجأة والبساطة. فإضافة إلى أنها مدخل تقني، هي أيضًا لحظة فلسفية وجمالية تُجبر القارئ على إعادة النظر في ذاته والعالم منذ الحرف الأول. فالأدب حين يكون عظيمًا، يعرف أن عالمًا بأسره يمكن أن يولد من جملة واحدة.


في تذكر إلياس خوري :

مرت قبل أيام الذكرى السنوية الأولى لرحيل الروائي اللبناني إلياس خوري، صاحب باب الشمس وأولاد الغيتو. الكاتب الذي لم ينظر إلى الأدب باعتباره زينة لغوية أو ترفًا ثقافيًا، لكن بوصفه فعلًا إنسانيًا ومسؤولية أخلاقية.

كان إلياس يرى الكتابة مساحةً لمواجهة الصمت، ووسيلةً لإعادة الاعتبار للكلمات التي أُهينت في زمن العنف والخذلان. ويرى بأن الكتابة ليست محض فهم أو تحليل، ولكنها عاطفة وفعل يولد من اختلاجات الروح، ومن الحاجة إلى أن نمنح المعنى حياة جديدة. لذلك ظل يكتب كي يقاوم النسيان، وكمن يفتح جرحًا ليبقى مفتوحًا أمام الذاكرة.

في روايته الأشهر باب الشمس، أعاد خوري بناء سردية النكبة الفلسطينية من خلال الحكايات المتناثرة في ذاكرة اللاجئين، محولًا الرواية إلى أرشيف حي للوجع وللحب وللخسارات الكبيرة. كتب الرواية كمأساة إنسانية تتوزع بين أجيال تتوارث الحلم بالعودة. وعبر شخصياتها جعل القارئ يعيش التهجير والمنفى، ويرى أن الهوية تختزل في ذاكرة وجسد وعاطفة وحق.

ولأن الأدب الحقيقي قادر على مغادرة الصفحات إلى الحياة، تحولت باب الشمس إلى رمزٍ واقعي حين أطلق ناشطون فلسطينيون عام 2013 على قريتهم الاحتجاجية شرق القدس اسم «باب الشمس». كانوا يدركون أن التسمية امتداد لرؤية أن الحكاية قادرة أن تُصبح مكانًا، وأن الأدب حين يُصغي لقضايا الناس يمكن أن يتحول إلى خيمة وصوت ووجود. اقتحم الاحتلال القرية بعد أيام، لكن الرمزية بقيت فعلًا ميدانيًا.

إرث إلياس خوري ككاتب تجلى في إيمانه أن الكلمة مقاومة، وأن الحكاية بيتٌ بديل للذين هُدمت بيوتهم، وما الأدب ليس إلا مواجهة للواقع.

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

بلطجة المثقفين🔍🔖 عبير اليوسفي ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥ من النادر أن يجتمع كاتبان في مقهى دون أن يختبئ في أحدهما ظل خصومةٍ ما، قديمة أو مؤجلة. فالتاريخ الأدبي منذ بداياته، كان مسرحًا مفتوحًا للعداوات المعلنة والخفية بين كُتّابه؛ كأن الإبداع لا يكتمل إلا في حضور خصمٍ ما، أو أن القلم لا يصفو إلا على حافة الغيرة. وفي زمن مضى كان الأدباء يتبادلون الهجاء والنقد اللاذع كما لو أن الكتابة ميدان صراع، وأن الجمال لا يُولد إلا من وسط العداء. في الأدب العربي لا يغيب عنا صدامات العقاد وطه حسين، وما تركته من جروح في...

عشرة كتب لا تكفي 📚😱 عبير اليوسفي ١٥ أكتوبر ٢٠٢٥ مؤخرًا انتشر على منصة إكس ترند يحمل تغريدة تقول:«عرف نفسك بعشرة كتب». للوهلة الأولى يبدو الأمر لعبة عابرة أو تمرينًا على التذكر، لكنه يخفي ما هو أهم من ذلك. كدت أشارك فيه، لولا أن الحيرة أوقفتني: كيف يمكن أن أختزل ذاتي القرائية في عشرة كتب؟ كيف أحصر أثر ما قرأته، وما غير فيّ، والنفس ليست ثابتة أصلًا؟ يبدو وكأننا نحاول رسم ملامح وجهٍ يتبدل باستمرار، لا يستقر على ملامح واحدة. فالقراءة نفسها ليست فعلاً خطيًا، هي تراكم متشابك من لحظات، وحوارات،...

نوبل التي لا تطاق ⏳🎖️ عبير اليوسفي ٨ أكتوبر ٢٠٢٥ كانت هناك خرافة طريفة يرددها ماركيز هي أن نوبل تمنح غالبًا لمن سيموت قريبًا. قال: من بين 75 فائزًا، ظل 20 فقط على قيد الحياة بعد الجائزة، كأن الاعتراف العظيم لا يُحتمل طويلًا. وهي خرافة لم تثبتها الإحصاءات، لكنها تكشف خوف الأدباء من المجد ذاته، وأن يكون الاعتراف نهاية الطريق لا بدايته. منذ أكثر من قرن، والعالم الثقافي يعيش على إيقاع هذا الطقس الخريفي الذي يبدأ في ستوكهولم. اسمٌ يُعلن، فتضج به الصحف والدنيا، ثم يخفت الضوء شيئًا فشيئًا، لكن ماذا...