لماذا لا نحتمل العزلة؟


معضلة سالنجر وسيمون🧐

Author

عبير اليوسفي

لسيمون بوفوار عبارة تقول: «إننا نسعى في غالب الأحيان إلى تحقيق كينونتنا دونما عون، أسير في الريف، أقطف زهرة، أركل حصاة. أفعل هذا كله، دونما شاهد، ولكن ما من أحد يرضى حياته كلها بمثل هذه العزلة. فما أن تنتهي نزهتي، حتى أشعر بالحاجة إلى أن أقصّها على صديق».

تمثل عبارتها تلخيص هادئ لمعنى الوجود المشترك. فالإنسان حتى حين يعيش لحظته وحده، لا يختبرها بوصفها مكتفية بذاتها. التجربة الفردية تحدث فعلًا في غياب الآخر، لكنها لا تكتمل إلا عندما تجد من تُقال له. كأن العيش وحده ممكن، غير أن الاعتراف بالعيش يحتاج شاهدًا ليمنح المعنى.

لهذا ظهرت العلاقة مع الآخر بوصفها مسألة مهمة في الفلسفة الوجودية. لم يكن السؤال كيف نكون أحرارًا فحسب، لكن كيف نكون أحرارًا في عالم يضم آخرين. سارتر الذي صاغ عبارته الشهيرة «الآخرون هم الجحيم» كان يكشف التوتر الواسع الذي يسكن كل علاقة. الآخر يضيق علينا حين يرانا، لكنه في الوقت نفسه يكشفنا لأن وجوده يعمل كمرآة نرى فيها أنفسنا. نحن ننزعج من نظرته ومع ذلك لا نستطيع الاستغناء عنها.

لكن سيمون كانت أكثر وضوحًا في هذا المعنى. التجربة مهما بدت فردية لا تعثر على معناها الكامل إلا عندما تُشارك. والمشاركة ما هي إلا محاولة لترتيب ما عشناه عبر اللغة، وكأن الكلام يمنح الحدث شكلًا يمكن احتماله. لأن الصمت يترك التجربة خامًا، عصيّة على الفهم، فيما الحكي يروضها دون أن ينزع عنها قسوتها.

غير أن هذه الحاجة إلى الكلام تخفي مفارقة موجعة عبّر عنها الأدب بصدق أشد من الفلسفة. سالنجر كتب ذات مرة لا تخبر أحدًا بأي شيء، فإذا فعلت ستبدأ بالافتقاد إلى كل من أخبرته. وهذا اعتراف بثمن الإفصاح. حين نتكلم نفتح بابًا لا يُغلق بسهولة، لأن كل كلمة تُقال تخلق خيطًا خفيًا بيننا وبين من سمعها لكن عندما ينقطع الصوت، يبقى الخيط مشدودًا في الداخل على هيئة حنين. تصبح العزلة امتلاء بآثار محادثات سابقة.

ما تقترحه معضلة سالنجر هو أن الشوق ليس ناتجًا عن الفقد وحده، بل عن المشاركة نفسها. كل مرة نتحدث فيها عن أنفسنا، نزرع بذرة غياب مؤجل. وكل مرة نمتنع عن الحديث، نحمي أنفسنا مؤقتًا من هذا الوجع، غير أننا نخسر في المقابل فرصة الفهم.


لذا لا يمكن النظر إلى العزلة بوصفها حلًا نهائيًا، ولا إلى العلاقة بوصفها خلاصًا. الإنسان يتحرك دائمًا بين رغبتين متناقضتين وهي أن يكون مفهومًا، وأن يبقى سليمًا. أن يشارك تجربته وأن ينجو من تبعاتها. وربما لهذا لا نحتمل العزلة المطلقة، كما لا نحتمل الانكشاف الكامل.

لسنا كائنات تبحث فقط عمن يعيش معنا، لكن عمن نروي له حياتنا أيضًا. وحين نعجز عن المشاركة نلوذ بالصمت. وحين يثقل الصمت نعود إلى الكلام، مدركين مسبقًا أن كل جملة نقولها قد تتحول يومًا ما إلى سبب جديد للافتقاد.


موسيقى 🎵

video preview


ُتعد Für Alina واحدة من أكثر الأعمال الموسيقية اختزالًا في القرن العشرين، بسبب الظروف الوجودية التي كُتبت فيها. ألفها الموسيقي الإستوني آرفو بارت عام 1976، في لحظة كانت أقرب إلى الانقطاع التام عن العالم الموسيقي السائد آنذاك.

قبل هذه المقطوعة بسنوات، دخل بارت في أزمة فنية حادة. شعر بأن اللغة الموسيقية التي يستخدمها لم تعد قادرة على التعبير عما يريد قوله. توقف عن التأليف لما يقارب ثماني سنوات، انصرف خلالها إلى دراسة الموسيقى القديمة، وبخاصة أعمال باخ، كان الصمت إعادة نظر كاملة في معنى التأليف ذاته.

في منتصف السبعينيات، خرج من عزلته بأسلوب موسيقي جديد عُرف لاحقًا باسم Tintinnabuli، وهو أسلوب يقوم على البساطة الشديدة، والتكرار، والفراغ. كانت Für Alina أول عمل مكتمل يجسد هذا التحول.

المقطوعة كُتبت للبيانو وحده، وهي قصيرة بلا بناء درامي تقليدي، ولا ذروة واضحة. وأهدى العمل إلى فتاة تُدعى ألينا ابنة صديق لبارت، كانت تمر بمرحلة انتقال صعبة في حياتها. لذا بدت أقرب إلى رسالة شخصية، حديث موجه إلى شخص واحد.

حياة آرفو بارت في تلك الفترة كانت مطبوعة بالعزلة والقيود. كان يعيش في إستونيا تحت الحكم السوفييتي، حيث كانت التعبيرات الروحية والدينية مراقبة. هذا التأثير السياسي جعل من الصمت خيارًا فنيًا يحمل بعدًا أخلاقيًا.


ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

عن فضيحة النشر الوهمي ⚡️😱 عبير اليوسفي ١٧ ديسمبر ٢٠٢٥ خلال الأيام الماضية، أُثير جدل واسع حول دار نشر عراقية بعد اتهامات وُجهت إليها بنشر كتب تحمل أسماء مؤلفين ومترجمين لا وجود لهم، وتقديم نصوص بوصفها ترجمات أو دراسات تاريخية وفكرية، من دون أن يكون لها أي أصل يمكن التحقق منه. لم تتوقف القضية عند حدود الاتهام، إذ أعلنت الدار لاحقًا إقرارها بأن هذه الإصدارات كُتبت من شخص واحد استخدم أسماء وهمية، ثم اختارت الانسحاب وإقفال دار النشر نهائيًا. هذه الكتب عناوين طُبعت وعُرضت وقُرئت، وربما استُشهد بها...

وداعًا أماني فوزي حبشي💔 عبير اليوسفي ١٠ ديسمبر ٢٠٢٥ يعجبني دائمًا كيف ينجح الأدب في تمرير الخرافة دون أن تبدو غريبة. يكفي أن يصف الكاتب مشهدًا غير مألوف حتى أعرف أن القصة تتجه نحو منطقة لم يفسرها الإنسان. تذكرت هذا الشعور أثناء قراءة كتاب مانفيستو القراءة، حين وجدت مقطعًا يشير إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفسر العالم بالحكايات، ويعود إليها كلما احتاج إلى معنى أو ترتيب. تحمل الفكرة تاريخًا طويلًا من علاقة الإنسان بالنصوص، علاقة بدأت قبل الكتابة بزمن حين كان الصوت الوسيلة الأولى لتخزين...

حين يسبق الإنسان الطبيب⚖️ فرانز فانون عبير اليوسفي ٣ ديسمبر ٢٠٢٥ صادفت جملة لفرانز فانون في مقالة كتبها إسكندر حبش في كتابه "ضفاف كثيرة، كتابة واحدة". يقول فيها: «الإنسان يحتاج إلى الحب والمودة والشعر ليعيش.» لتبدو الحاجة الإنسانية كما صاغها أبعد من كونها مشاعر لطيفة ترافق الحياة. إنها جوهر الطريقة التي نحافظ بها على ملامحنا في عالم يجردنا بسهولة من أنفسنا. يعاد ذكر فرانز فانون في معظم الخطابات السياسية بوصفه واحدًا من أكثر منظري التحرر جذرية، وكأن قيمته كامنة في تحليله للعنف الاستعماري. لكن...