إلى ياسين البكالي فقيد القصيدة


الخسارات التي لا نحصيها💔

Author

عبير اليوسفي

«عن كلِّ ما في القلبِ‏ لستُ بقائلِ
‏حزني كتابٌ ‏ضمَّ كل قبائلي»
*ياسين البكالي

عرفته بهذه الكلمات عام 2015 وأنا أتصفح الإنترنت، وقعتُ على قصيدةٍ له. كان اسمه غير مألوف لي لكن شدني أنه يمني يكتب من شقٍّ في الصدر، وليس من رغبة في لفت الانتباه. الشاعر ياسين محمد البكالي، الذي عاش منسيًا داخل وطنه ومحتفى به خارجه، رحل نهاية الأسبوع الماضي مصطحبًا وجعه لا أحد سواه، بعد أن قص معاناته في وضح اللغة، وكتب شكواه من مرض السكري، حتى قطفه الموت منا.

لا يموت الشعراء حين تتوقف قلوبهم، يموتون الميتة الأولى حين يتوقف محيطهم عن الالتفاف لهم.

مثلت معاناة الشاعر على مرّ التاريخ الأدبي، جزءًا من الظلال التي لا يحب الأدب الرسمي أن يراها. فالموهبة حين تُولد خارج المركز أو خارج الدعم، غالبًا ما تُترك لتذبل وحدها، ويُكتب لها أن تُحتفى بعد فوات الاستدراك، بعد أن يتحوّل اسمها إلى مَعلم ندمٍ، بدلًا من حضورٍ حيّ.

كان الأدب ولا يزال مقبرة صامتة لأولئك الذين لم تحمِهم السياقات. أولئك الذين وُلدوا خارج دوائر الدعم، بعيدًا عن المركز، محرومين من غطاء المؤسسة أو اعتراف الجماعة. يتم تجفيف أصواتهم تدريجيًا تحت وطأة الإهمال، ويُكتَب لهم المجد متأخرًا، وكأن الاعتراف بالشاعر لا يُمنح إلا بعد أن يُنقَل إلى صيغة الماضي.

هذه الازدواجية تكشف خللًا كبيرًا في منظومة الوعي الأدبي. فالمشهد الثقافي في أعمّ تمظهراته، يؤجل الاعتراف بالشاعر حتى يكتب عنه في صيغة الماضي. ويغدو الشعر وظيفة جمالية أكثر من كونه شهادة حياة. لهذا يُحتفى بالقصيدة وتُنسى السيرة. يُناقش النص ويُغفل السياق الذي وُلد فيه.

من المسؤول عن هذا التقصير؟

الجمهور الذي لم يعرف الشاعر، ولم يسعَ لاكتشافه خارج ما يُروَّج له؟ أو الأدباء أنفسهم، الذين يغفلون عن زملائهم القريبين؟ أو المؤسسة الثقافية التي أصبحت تمثّل الحضور الرمزي فقط، دون أن تؤدي أدنى وظائفها في الرعاية أو الدعم أو حتى في الالتفات؟

الجمهور في أغلبه، لا يملك أدوات التمييز ولا وقت الاكتشاف، وقد أُعيد تشكيل ذائقته وفق مقاييس جاهزة من الشهرة. أما الأدباء فكثير منهم ينجرفون في نزعة فردية، يتعاملون مع الأدب كميدان صراع وليس كجماعة مصير، فيصمتون عن معاناة أصدقائهم.

لكن المؤسسة الثقافية تبقى الحلقة الأخطر. فهي التي يفترض أن تملك أدوات التقدير، ومنصات الاحتضان وشروط التقييم العادل. غيابها حين تنشغل بالإنتاج وتُهمِل المُنتِج، تكرس نظامًا من الصمت المتواطئ. ويغدو الأدب ساحةً للمنجز النهائي، متغاضيًا عن المسار الإنساني الذي أنتجه. والنتيجة أن الساحة تمتلئ بأسماءٍ كانت قبل سنوات تحيا على الهامش، تُنسب إليها القيم الجمالية بعد فوات الكرامة.

تاريخ الأدب العربي يعجّ بأسماءٍ كُتبت بعد الموت، لأن الحياة لم تكن تُفسح لها مكانًا. ورحيل الشاعر ياسين البكالي مؤخرًا يضيف اسمًا جديدًا إلى سجل الخسارات التي لا تُحصى. شاعر عاش على الهامش، كتب من داخله وواجه صراعاته. كانت قصائده سبيلًا للنجاة. ومع ذلك لم يُفتح له المجال ليُحكى عنه، أو يُكرم أو يُحتفى به في وطنه.

العدالة الأدبية تبدأ بالإنصات. والمشهد الثقافي لا يكون حيًا إلا حين يُقيم توازنًا بين النص وصاحبه. وما لم يُبذل جهدٌ حقيقي في رعاية الأصوات وهي في طور النبض، سيظل الشعراء يموتون منسيين، ويظل الأدب مقبرةً مزينة تأخذ شكل مكتبة أنيقة، تعجّ بالأسماء التي لم تجد حياةً كريمة في واقعها، واكتسبت قيمتها فقط حين صمتت نهائيًا.

«أنا ذلكَ المنسيُّ في أسفارِهِ
‏ظلَّ الغريبَ ‏برغم قولِ القائلِ »

video preview

ياسين البكالي يلقي قصيدته "مخيلة في بال الغيم" من الندوة الثقافية في القاهرة

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

في تشتيت التشاؤم وتجميل الأقدار🧿🦉 Edward Hopper عبير اليوسفي ١٨ يونيو ٢٠٢٥ كانت جدتي تتوجس كلما نبح كلب في المساء، معتبرةً صوته نذير موت يلوّح من بعيد. أمي ورثت هذا التوجس كأنه إرث لا يُرد. أما صديقتي الهندية التي لم تكن تجيد العربية لكنها تجيد قراءة الإشارات، فكانت تنهرني حين أحرّك قدمي أثناء الجلوس، وتقول إنها علامة على فقد أحد الوالدين. وما يظل شائعًا هو رفة العين: فإن كانت اليسرى قالوا “ستبكين”، وإن كانت اليمنى قيل “رزق أو سيعود غائب”. لكن ما أحببته أكثر هو حكة كفّ اليد، الحكة الصغيرة...

عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮 عبير اليوسفي ١١ يونيو ٢٠٢٥ مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟ تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا. وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى...

تأملات في المرارة🧘🏻♀️❤️🩹✨ أفروديت آلهة الجمال عبير اليوسفي ٤ يونيو ٢٠٢٥ هل فكرت يومًا في سر الجمال ولماذا يدهشنا ويؤلمنا في آنٍ واحد؟ طُرح على إدغار موران سؤال حول الدافع الذي قاده إلى الكتابة عن الجمال في سن الخامسة والتسعين. فأجاب بأن السينما والأدب والشعر كانت منذ طفولته الأولى الركائز التي شكّلت رؤيته للعالم وصاغت ملامح شخصيته. عاش يتيمًا في العاشرة، فوجد في الفن ملاذًا يكتشف من خلاله ذاته ويمدّ صلته بالحياة. وأوضح أنه تأثر بقراءة رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، والمعزوفة التاسعة...