ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.
Share
في وداع الكتب
Published 2 months ago • 1 min read
ما يبقى من القارئ🪦🥺
الكاتب ألبرتو مانغويل بين أحضان الكتب
عبير اليوسفي
١٦ أبريل ٢٠٢٥
قبل سنوات، حين واجهتُ خيار العودة والاستقرار في اليمن، كانت مكتبتي أكبر مصادر القلق. لم تكن المسألة في حزم الأمتعة، بل في احتمال الاضطرار إلى الانتقاء، والتخلي عن كتب رافقتني وبعضها كبر معي، وبعضها شهد تحوّلاتي في القراءة. ومع سيل الكراتين التي دفعت بها قبلي إلى الحدود، وجدت نفسي أمام ذلك الاختيار القاسي من يبقى ومن أترك؟
اليوم، أقف أمام ما تبقى أراعي حدود اتساع المكتبة حتى لا تتكرر التجربة مرة أخرى أن أضطر للفرز أو أسوأ من ذلك، أن أترك كتبي خلفي ذات يوم. فماذا لو لم يكن الفراق اختيارًا، بل موتًا؟
الشاعر اليمني المرحوم سلطان الصريمي بين كتبه يودعها.
في صورة الشاعر اليمني سلطان الصريمي قبل وفاته بأشهر قليلة، والتي أعاد نشرها مؤخرًا الكاتب أحمد السلامي على حسابه في الفيسبوك. تتجلى لحظة فاصلة، حيث يُرى الشاعر جالسًا بين كتبه استعدادًا لوداع آتٍ. تلك اللحظة اختزلت عمق العلاقة بين الإنسان وكتبه، علاقة لا تُورث بل بالكاد يمكن تخيلها. فما يبقى بعدنا ليس الكتب فحسب، بل عوالم وهوامش مكتبة، وقراءات ظلت غير مكتملة.
حين يرحل القارئ عن عالمه لا يغيب معناه فحسب، بل تختفي معه أيضًا تلك المكتبة التي كانت مرآة لإحساسه الفكري والعاطفي. والتي شهدت تقلبات ذهنية وحكايات لا تُروى إلا بلغة القارئ الخاص، تجد نفسها فجأة أمام مصير غامض. مصير تكرس أنماطًا عتيقة؛ فماذا يحدث عندما تُنتزع الكتب من سياقها الشخصي وتُعاد إلى فضاء عام لا يحتفظ بذات الدفء؟
في جوهر هذا التساؤل تكمن مشكلة مركبة؛ فالمكتبة الشخصية ليست مجموعة عشوائية من الأوراق المطبوعة بل سجل ذاتي، أرشيف داخلي يعبر عن حياة فكرية مرت بتجارب وقراءات واختيارات. هي ذاكرة للحياة كما عاشها صاحبها، لا مجرد ذاكرة للمعرفة. وعندما تفقد هذه المكتبة صاحبها، يحدث انقطاع ليس بانتهاء نص بل بتوقف سرد الذات الذي كان يمد الكتب بالحياة والمعنى.
فلسفيًا، ترتبط المكتبة الشخصية بمفهوم الهوية السردية كما صاغها بول ريكور، حيث يُعاد تشكيل الذات من خلال استمرارية السرد الذي توثقه الأفعال والاختيارات، والكتب جزء أصيل من هذا السرد. المكتبة إذًا ليست وثيقة ثانوية هي“أرشيف الأنا”، تُعبر عن التكوين المعرفي والانفعالي لصاحبها. ولذلك فإن فقدانها أو تفككها بعد الموت لا يعني فقط اختفاء المجموع الورقي، بل يعني تمزق السرد الذاتي وخروجه من دائرته الوجودية إلى فضاء تُهيمن عليه أنماط القراءة النفعية أو السوقية أو المؤسسية.
أدبيًا، يكتسب هذا الفقدان بُعدًا تراجيديًا خاصًا، لأنه يُسقط المكتبة من مقامها كـ “فضاء رمزي” على حد تعبير باشلار إلى كيان قابل للفرز والتصنيف، أي إلى سلعة معرفية يمكن أن تُشترى وتُباع دون أن تُقرأ. وهذا التحول من الحميمي إلى العمومي، من الشخصي إلى المجرد، يُفرغ الكتب من قوتها السردية، ويحولها إلى مجرد مواد باردة. إن موت القارئ في هذا الإطار، لا يعني فقط نهاية القراءة، بل يعني توقف اللغة عن أن تكون حوارًا داخليًا، واستحالتها إلى خطاب بلا مستمع.
أنثروبولوجيًا، تنتمي المكتبة الشخصية إلى ما يمكن تسميته بـ “الذاكرة الحميمة”، التي يصعب نقلها من سياقها الأصلي، فهي نتاج تجربة فردية لا يمكن تكرارها. فالكتاب الذي حمله القارئ في سفره، أو الذي رُويت صفحاته لحظاته الخاصة، يفقد جزءًا من هوية محتواه حين يُعرض على قارئ غريب لا يعرف خلفيته ولا سياق قراءته.
على المستوى الثقافي، يتحول مصير المكتبة إلى قضية تُطرح من زاوية نقدية؛ إذ إن المؤسسات الثقافية في كثير من الأحيان تنظر إلى المكتبات الشخصية كأرصدة قابلة للتصنيف والفرز، لا كنصوص حية تحمل بصمات الهوية. وهذا التحول من النطاق الحميمي إلى السياق العام يُجرد الكتب من قيمتها الأصلية، فيصبح ما تبقى منها أثرًا باردًا مطروحًا للتأويل، دون روح القارئ الذي منحها معناها.
وعلى مر التاريخ، شهدنا مصائر متباينة لكبار المفكرين؛ ففيما ظلت مكتباتهم شاهدة على رحلة فكرية لا يمكن أن تتكرر بالهوية نفسها، فإن الكثير من المكتبات الأخرى انتهت إلى نسيان أو تفكك بلا وداع. هذه الظاهرة تعكس غياب سياسة ثقافية واضحة للحفاظ على تلك الذاكرة غير الملموسة، ذاكرة تتجاوز كونها مجرد ممتلكات، لتصبح ركنًا من أركان التراث الحضاري.
وفي هذا الإطار، حاولت بعض المبادرات المعاصرة، كالأرشفة الرقمية أو نقل المكتبات إلى المؤسسات البحثية، أن تُنقذ ما يمكن إنقاذه من ذاكرة القارئ. لكنها رغم ذلك كثيرًا ما تقع في فخ التجميد إذ تتحول المكتبة من كيان نابض بالحياة إلى أرشيف صامت، وتفقد الكتب قدرتها على أن تكون مرآة لذاتها الأولى، شاهدة على تلك العلاقة الحية بين قارئ وكتاب.
وهكذا ما يُنقذ شكلاً، يخسر روحًا.
توصية قراءة 📖:
الروائي كارلوس ماريا دومنيغيث
تعتبر رواية “بيت الورق” للكاتب الأوروغوياني كارلوس ماريا دومنغيث واحدة من الأعمال الأدبية التي تثير أسئلة مهمة حول مصير الكتب والقارئ بعد رحيله. رغم قصرها تحمل الرواية في طياتها تساؤلًا مفتوحًا عن الوجود الفعلي للأدب في غياب القارئ، كما تُطرح قضية العلاقة الشائكة بين الإنسان والمكتبة بوصفها كائنًا حيًا قد يتأثر بمصير صاحبه أو يتجاوز حدود هذا المصير.
تبدأ الرواية بحادث غريب، قارئة تفارق الحياة أثناء عبورها الشارع، بينما كانت غارقة في صفحات كتابها. هذا الحدث يدفع الراوي صديقها، إلى تتبع سر غامض يتعلق بكتاب غطاه الإسمنت ووصل إليها بعد وفاتها. من هنا تتحول الرواية إلى رحلة استكشاف في عالم الكتب والمكتبات، التي قد تصبح بمثابة سجن أو ملاذ للباحثين عن الأمل أو الهروب، حيث يجد بعضهم في الكتب ملاذًا يحمونه من الواقع، بينما يغرق آخرون في هذه العوالم لدرجة أنهم يبنون “بيوتًا من الورق”.
لكن “بيت الورق” كانت حكاية أوسع من قارئ وكتاب، بل بحث في ماهية المكتبة ككيان يظل على قيد الحياة حتى بعد غياب صاحبه، سواء كان ذلك بالاحتفاظ بحيويتها أو دفنها مع من رحل. تسلط الرواية الضوء على العلاقة المعقدة بين الوجود الفردي والمكتبة، حيث تتحول الأخيرة إلى مرآة تعكس شخصية صاحبها، وربما إلى قبر رمزي له، تعيش الكتب في حضوره وتختفي في غيابه. وبذلك تصبح مدخلًا لدراسة مصير المكتبات ليس من زاوية إدارية أو توثيقية، بل من خلال النظر إلى تجربتها الإنسانية الحية
في تشتيت التشاؤم وتجميل الأقدار🧿🦉 Edward Hopper عبير اليوسفي ١٨ يونيو ٢٠٢٥ كانت جدتي تتوجس كلما نبح كلب في المساء، معتبرةً صوته نذير موت يلوّح من بعيد. أمي ورثت هذا التوجس كأنه إرث لا يُرد. أما صديقتي الهندية التي لم تكن تجيد العربية لكنها تجيد قراءة الإشارات، فكانت تنهرني حين أحرّك قدمي أثناء الجلوس، وتقول إنها علامة على فقد أحد الوالدين. وما يظل شائعًا هو رفة العين: فإن كانت اليسرى قالوا “ستبكين”، وإن كانت اليمنى قيل “رزق أو سيعود غائب”. لكن ما أحببته أكثر هو حكة كفّ اليد، الحكة الصغيرة...
عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮 عبير اليوسفي ١١ يونيو ٢٠٢٥ مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟ تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا. وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى...
تأملات في المرارة🧘🏻♀️❤️🩹✨ أفروديت آلهة الجمال عبير اليوسفي ٤ يونيو ٢٠٢٥ هل فكرت يومًا في سر الجمال ولماذا يدهشنا ويؤلمنا في آنٍ واحد؟ طُرح على إدغار موران سؤال حول الدافع الذي قاده إلى الكتابة عن الجمال في سن الخامسة والتسعين. فأجاب بأن السينما والأدب والشعر كانت منذ طفولته الأولى الركائز التي شكّلت رؤيته للعالم وصاغت ملامح شخصيته. عاش يتيمًا في العاشرة، فوجد في الفن ملاذًا يكتشف من خلاله ذاته ويمدّ صلته بالحياة. وأوضح أنه تأثر بقراءة رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، والمعزوفة التاسعة...