عصر الطائرات المسيرة


كيف تغيرت صور الحرب؟ 💣🚀🛫

Author

عبير اليوسفي

في الفترة الأخيرة أصبحت الأحاديث السياسية تسبق القهوة، وتتسلّل إلى كل مجلس، من مقعد الباص إلى صالة البيت، ومن لقاءات العائلة إلى الدردشة بين أصدقاء لم يكونوا يومًا مهتمين بالخرائط أو التوازنات الإقليمية "وأنا منهم".

كانت الحرب على فظاعتها لحظة انكشافٍ للإنسان. انكشاف لا يرحم ولا يُخفي. منذ الإلياذة، كان المحارب يُسمى باسمه، وتُروى تفاصيل جسده الجريح، تُعزف ملحمة دمه وخوفه وقراراته. وحين رسم تولستوي مشاهد الحرب والسلام، كان يصف ارتباك الجنود وصمتهم، وذهولهم الوجودي أمام مشهد الموت.

أما في القرن العشرين، ومع جحيم الحربين العالميتين، فقد دخلت البشرية في اختبار لم يخرج منه الإنسان إلا وقد أُعيد تعريفه بوصفه كائنًا قابلاً للمحو والتشييء، كما في معسكرات النازية وغرف الغاز، حيث فقد الجندي والمعتقل والضحية أسماءهم، وباتوا مجرد أرقام.

لكن حتى تلك الحقبة على قسوتها، لم تكن بلا ملامح. الجنود كانوا يعودون بأطراف مقطوعة وأعين مذهولة، وكان يمكن للأدب أن يستعيد تلك التجارب، كما فعل إرنست همنغواي في وداعًا للسلاح، أو اريك ماريا ريمارك في كل شيء هادئ على الجبهة الغربية، حيث تنكتب الحرب كصدع نفسي وجسدي لا يندمل. احتفظت الحروب حتى تلك اللحظة، بجزء من “الدم”، من الأثر الحي، من التورط الإنساني المباشر.

اليوم، في زمن الطائرات المسيّرة، فإن المشهد قد تغير على نحو جذري. تُدار الحروب من غرف تحكم، وجنودها لا يتركون بيوتهم ولا يواجهون خطرًا حقيقيًا. يُقال لهم إن ثمة “هدفًا”، فيضغطون زرًا، ويعودون إلى أطفالهم، كما لو أنهم شاركوا في لعبة فيديو. مات المئات؟ دُمّر حيٌّ سكني؟ الصور تصل لاحقًا، لكن الدم لا يصل. وهذا ماحدث في مشهدٍ يذكّر بعبثية الموت عند كامو، استفتح الكاتب اليمني أحمد السلامي روايته أجواء مباحة، الصادرة عن دار الآداب، بضربة جوية تنفذها طائرة مسيّرة أمريكية على قرية يمنية نائية. القصف يأتي بلا مقدمات، بلا سياقٍ مفهوم ولا حتى ضجيج يُنذر بالخطر. تموت شقيقة البطل وبناتها في قصف على منزلهم، كان الزوج هو المستهدف عن طريق شريحة مزروعة من تواطؤ أحدهم لكنه فر قبل القصف. لتبدأ الرواية بانعدام معنى الموت، وهذا تمامًا ما يجعلها تنتمي لعصر جديد من الحروب.

أصبحت الحروب أكثر “نظافة” من وجهة نظر التكنولوجيا، لكنها من حيث الوعي الإنساني أكثر وحشية، لأنها لا تتيح لنا حتى الاعتراف بوحشيتها. في السابق، كانت الصور تُحدث صدمة، كصورة الفتاة الفيتنامية والتي ساهمت في قلب الرأي العام الأمريكي ضد الحرب. أما في حرب اليوم أصبح الموت يُرصد عن بُعد، عبر خرائط، حيث يُختصر وجود الإنسان إلى نقطة على الشاشة تُمحى بضغطة زر.

في كتابه الذات عينها كآخر، يتحدث بول ريكور عن الفاعل الأخلاقي، وعن الخطر الكامن حين ينفصل الفعل عن عواقبه. وهنا جوهر المأساة، الحروب الحديثة تمثل أعلى درجات “فقدان الوصايا الأخلاقية”، على حد تعبير زيغمونت باومان في كتابه الحداثة والهولوكوست، حيث لا وجود للاحتكاك المباشر، ولا حتى لشعور الغثيان الذي كان يصيب الجندي بعد أول طلقة قاتلة. لأن القاتل لا يتخذ قراره، إنما ينفذ جزءًا من مخطط أوسع. هكذا يصبح العنف ممكنًا داخل منظومة تدفع الأفراد إلى أداء أدوارهم بكفاءة تقنية، من دون حاجة إلى كراهية، ومن دون أن يشهدوا نتيجة ما ساهموا فيه.

وقد حذر الأدب دومًا من هذه المسافة القاتلة. في روايته القلعة يصور كافكا بيروقراطية عمياء تقتل دون أن تعرف لماذا. واليوم، تسير الإنسانية نحو صورة أكثر كابوسية حيث تتحول الحرب إلى نظام إداري، تُدار فيه العمليات من غرفة تحكم، وتُنسى أسماء الضحايا.

ربما ينهض دور الأدب الآن كأرشيف إنساني مضاد للنسيان، كما فعل في الحروب السابقة. وصحيح أنه لا يستطيع إيقاف الصواريخ المنطلقة من أحدث الأسلحة، لكنه يقدر على استعادة الإنسان المهدور اسمه.فحين يختفي الدم من المشهد، يعني أن العنف قد اتخذ اتخذ شكلًا متطورًا أكثر وحشية، وأقل شعورًا بالذنب.

وما (الدرون) إلا مرآة مظلمة لزمنٍ لم يعد يحتمل مواجهة نفسه.


توصيات قراءة 📖:

الحداثة والهولوكوست

في أحد اللقاءات، أشار زيغمونت باومان إلى أن كتاب زوجته زمن الغيتو كان أحد المؤثرات الأساسية التي دفعته لكتابة الحداثة والهولوكوست، وهو ما يفسر اختلاف هذا العمل عن بقية مؤلفاته، رغم أنه كما يذكر كان أثناء وقوع الحدث بعيدًا في روسيا.

يقدم باومان في كتابه أطروحة مفادها أن الإبادة الجماعية لليهود وغيرهم في أوروبا لم تكن نتيجة انحراف همج طارئ، كانت ممكنة من داخل منطق الحداثة ذاته.

وينطلق من سؤال إشكالي: كيف استطاع مجتمع صناعي حديث، قائم على التنظيم والعقلنة والتقنية، أن ينفذ واحدة من أكثر الجرائم توحشًا في التاريخ؟

تكمن إجابته في البنية البيروقراطية للحداثة، التي تُفكك المسؤولية الأخلاقية وتعيد توزيعها على سلسلة من المهام الإجرائية الدقيقة. وفي هذا النمط من التنظيم، يُختزل الفعل العنيف إلى وظيفة يُؤديها الفرد دون أن يضطر لمواجهة نتيجته. وهكذا يفقد الفاعل رؤيته لما يفعل ويتحول القتل إلى عملية “نظيفة” تُدار كما تُدار المهام اللوجستية.

يشير الكاتب إلى أن السلطة النازية اعتمدت على خطاب الكراهية، لكنها استخدمت أيضًا لغة إدارية محايدة، من قبيل: “المعالجة النهائية”، “تنظيم الترحيل”، و”حل المسألة اليهودية”، وهي مصطلحات تؤدي وظيفة مزدوجة: التنفيذ والتنصل. فاللغة هنا تخفي الجريمة وتنزع عنها أثرها الأخلاقي بالكامل. ويرى أن هذا الانفصال البنيوي بين الفعل ونتيجته، شكّل أحد الشروط الأساسية لإمكان الإبادة. ومن هنا كانت الهولوكوست اختبارًا داخليًا للحداثة، يكشف ما قد تنتجه البنية التقنية حين تُفصل عن أي أساس أخلاقي. ويغدو القتل مسألة إدارة لا ضمير فيها، يُنجز بدقة عالية، من قبل أفراد “يؤدون وظائفهم”.

ورغم أن الكتاب يركز على تجربة النازية، فإن استنتاجاته تتجاوز سياقها التاريخي، وتفتح بابًا لمحاولة فهم البُنى المعاصرة للعنف.


موسيقى 🎵:

video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

ماذا لو تخلى المعنى عنك؟🔔😱 خورخي لويس بورخيس عبير اليوسفي ٢ يوليو ٢٠٢٥ في نهاية عام 1938، سقط خورخي لويس بورخيس جريحًا بسبب حادث منزلي بسيط ظاهريًا، لكنه كاد أن يودي بحياته. أصيب بتسمم دموي، وخيم عليه شبح الموت والجنون، فاستبد به رعب خفي أن يفقد قدرته على الكتابة، أو أن يتعطل عقله عن الفهم. في المستشفى، طلب من والدته أن تقرأ له من كتاب للكاتب البريطاني سي. إس. لويس. وبعد أن قرأت له انفجر باكيًا، سألته “لماذا تبكي؟”، فأجاب: “لأني أفهم.” بهذا الجواب حدد بورخيس لحظة العودة إلى الذات. كان يتحقق...

في تشتيت التشاؤم وتجميل الأقدار🧿🦉 Edward Hopper عبير اليوسفي ١٨ يونيو ٢٠٢٥ كانت جدتي تتوجس كلما نبح كلب في المساء، معتبرةً صوته نذير موت يلوّح من بعيد. أمي ورثت هذا التوجس كأنه إرث لا يُرد. أما صديقتي الهندية التي لم تكن تجيد العربية لكنها تجيد قراءة الإشارات، فكانت تنهرني حين أحرّك قدمي أثناء الجلوس، وتقول إنها علامة على فقد أحد الوالدين. وما يظل شائعًا هو رفة العين: فإن كانت اليسرى قالوا “ستبكين”، وإن كانت اليمنى قيل “رزق أو سيعود غائب”. لكن ما أحببته أكثر هو حكة كفّ اليد، الحكة الصغيرة...

عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮 عبير اليوسفي ١١ يونيو ٢٠٢٥ مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟ تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا. وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى...