هندسة الضوء الأزرق


الكتابة عن الذات 📝⏳

Author

عبير اليوسفي

تشدني دومًا قراءة السير أكثر من غيرها من الأجناس الأدبية لما تمنحه من تماسّ حميم مع التجربة الإنسانية في أكثر حالاتها انكشافًا. وفي الأيام الماضية شدني حسين البرغوثي عبر عمله الفريد الضوء الأزرق. صدر الكتاب عام 2004، ولم يُقدَّم يومها بوصفه سيرة ذاتية صريحة، لكنه سرعان ما تموضع داخل هذا الجنس الأدبي لفرادته. لا يتبع البرغوثي مسارًا زمنيًا تقليديًا، ولا يهتم بتوثيق حياته وفق ترتيب وقائعي، هو يعيد بناء تجربته من خلال محطات محددة عاشها أثناء دراسته في أمريكا، حيث يلتقي بشخصية غامضة، وتبدأ رحلة عقلية وجودية لاكتشاف الذات والعالم.

يندرج الكتاب ضمن ما يصح تسميته بالسيرة الفكرية، إذ لا يتعامل مع الذات بوصفها أرشيفًا للذكريات، بل كحقل مفتوح للتجريب والتفكير. فهو يكتب ليستعرض مامضى ويخضعه للفحص، يعيد تفكيكه، ويعيد تشكيله داخل نسيج سردي يعكس قلقه المعرفي. وهذا ما يجعله نموذجًا متقدمًا لكتابة السيرة الذاتية المعاصرة، حيث لا يُروى الماضي بوصفه حدثًا ناجزًا، إنما كمادة مستمرة لإنتاج المعنى.

أن يكتب الإنسان سيرته معناه أن يستدعي الزمن إلى الطاولة، أن يضع ذاته تحت مجهر السرد ليحاورها، يراجعها ويعيد إنتاجها على نحو قابل للتأمل. هذه الرغبة ليست ناتجة عن فائض كما يُظن في الخطابات السطحية التي تختزل السيرة إلى ضرب من الغرور، وإنما هي كمحاولة لتثبيت أثر في عالم زائل.

لم تولد السيرة الذاتية دفعة واحدة، ولا بشكلها الذي نعرفه اليوم. كانت بداياتها مرتبطة بفعل ديني صرف وهو الاعتراف. كما في اعترافات أوغسطين، فلن تجد فيها سردًا لحياة بالمعنى المتداول لاحقًا، هي حوار بين الإنسان وربّه، محاولة لفهم لحظة السقوط ومسار الخلاص، ذات متروية أمام المطلق لا أمام جمهور قارئ. هذه النزعة اللاهوتية في فهم الذات مهدت لتصور وجودي يرى الحياة بوصفها سؤالًا مفتوحًا.

ومع صعود النزعة الإنسانية في عصر النهضة بدأت ملامح جديدة تتشكل. جاء جان جاك روسو في الاعترافات ليتحدث عن الإنسان، عن نفسه، والفرد الذي يملك الحق في أن يكون مركز التجربة، وليس مجرد ظل في حكاية كونية أكبر منه. كان روسو صريحًا في كشفه لأن للصراحة قيمة أدبية في ذاتها، ولأنها أداة لنزع القداسة عن الحياة اليومية، ولإعادة الاعتبار لكرامة الذات الفردية في وجه قوالب الجماعة.

منذ تلك اللحظة، دخلت السيرة الذاتية طورها الحداثي وبدأت تتحول من مرآة تلتقط ما كان، إلى أداة تعيد صياغته وفق رؤية جديدة. ومع هذا التحول برزت الحاجة إلى تأطير نظري لهذا النوع الأدبي، وهو ما أنجزه فيليب لوجون عبر مفهومه الشهير "الميثاق السيري"، الذي يرى أن السيرة الذاتية تُبنى على اتفاق ضمني بين الكاتب والقارئ على أن ما يُروى في النص هو حياة الكاتب نفسه، وأن الاسم على الغلاف مطابق للاسم في السرد، وأن ما يُقدَّم ليس تخييلاً محضًا، بل محاولة صادقة لتقديم الذات كما عاشتها. هذا الميثاق لا يحكم صدق الوقائع بل صدق النية السردية، أي التزام الكاتب بألا يقدم نفسه عبر قناع سردي خالص. ومع ظهور هذا المفهوم أصبح النظر إلى السيرة الذاتية أكثر تعقيدًا، فليس المهم ما إذا كانت دقيقة تمامًا، بل كيف تتعامل مع “الذات” بوصفها موضوعًا للسرد، يتأرجح بين الواقع والتأويل، بين الحقيقة والتخييل.

في القرن العشرين، ومع صعود نظريات الذات والتحليل النفسي، شهدت السيرة الذاتية انزياحًا إضافيًا حيث لم تعد مجرد حكاية حياة، أصبحت شكلاً من أشكال العلاج السردي. الذات الراوية لم تعد تنظر إلى ماضيها كخزان للذكريات، إنما كمادة خام يجب تفكيكها وتأويلها. ميشيل فوكو مثلًا رأى أن كتابة الحياة فعل مقاومة ضد أنظمة المعرفة والسلطة، وبارت أعلن موت المؤلف في الوقت الذي كان فيه يكتب عن ذاته بطريقة لا تخلو من التورية.

الأدب المعاصر نقل السيرة الذاتية إلى منطقة رمادية، فلم يعد واضحًا من المتكلم هل هو الكاتب كما عاش فعلًا؟ أم شخصية سردية صيغت لتقود القارئ إلى وهم الكشف؟

في العالم العربي، كانت السيرة الذاتية حقلًا منضبطًا في البداية، خاضعًا لسلطة الأخلاق والتاريخ. كُتبت غالبًا بوصفها وثيقة تعليمية أو سجلًا لرجال الدولة والمثقفين. لكنها مع مرور الزمن بدأت تخرج من أسر الأدوار الاجتماعية إلى فضاء الذات الفردية، كما نلاحظ في تجارب مثل الخبز الحافي لمحمد شكري، أو في السير النسوية التي لا تبحث فقط عن الاعتراف، إنما عن تفكيك الصمت ذاته الذي طالما خنق صوت المرأة الكاتبة.

ما تطورت فيه السيرة الذاتية ليس فقط موضوعها، أيضاً وعيها بذاتها كنوع أدبي. أصبحت جنسًا أدبيًا متوترًا، يقع في تقاطع الذاتي مع التاريخي والواقعي مع المتخيل، والخاص مع الجمعي. لم تعد الغاية سرد ما حدث وإنما مساءلة الطريقة التي نرويه بها واللغة التي نكتب بها.

ومع التحولات الرقمية التي أعادت تشكيل أنماط التواصل والمعرفة، دخلت السيرة الذاتية طورًا جديدًا أكثر تعقيدًا. لم تعد الكتابة عن الذات حكرًا على العمل الأدبي الطويل المتأني، غدت فعلًا يوميًا معممًا على نطاق واسع عبر المدونات ومنصات التواصل الاجتماعي، والمذكرات الإلكترونية. صار كل إنسان بوسائله البسيطة قادرًا على أن ينسج صورة عن نفسه، يحررها، يعيد تنقيحها، ويعرضها لجمهور واسع متبدل باستمرار.

هذا التحول فرض على مفهوم السيرة الذاتية تحديات جديدة. السيرة لم تعد فقط نصًا مكتوبًا محكومًا بآليات السرد الأدبي، وإنما أصبحت بنية مرنة، مفتوحة على التدخل اللحظي والمراجعة المستمرة، والخداع الواعي أحيانًا. فالذوات الرقمية لا تسعى إلى كشف الحقيقة بقدر ما يكون بناء انطباع، إدارة صورة، وهندسة حضور رمزي قابل للاستهلاك السريع.

ومع ذلك، يبقى الدافع الأساسي لكتابة الذات -أو تمثيلها- دافعًا وجوديًا. الرغبة في أن نترك أثرًا في أن نحكي عن أنفسنا قبل أن يفعل ذلك سوانا لم تخفت، وإن تغيرت أدواتها. السيرة الذاتية اليوم لا تكتب فقط في الكتب، هي تتناثر عبر تعليقات، صور، مقاطع فيديو "فلوقات"، وتغريدات، كل منها يشكل لبنة في بناء سرديات الذات المعاصرة.

كتبت الذات سيرتها الأولى تحت وطأة الاعتراف، ثم نطقت بها عبر شهوة الظهور، ثم أطلقتها اليوم إلى الفضاء الرقمي كأثر سريع التبدد. كل كتابة عن الذات هي محاولة لانتزاع لحظة ثابتة من مجرى النسيان، لصنع نص يحفظ الإنسان من أن يصبح طيفًا عابرًا لا اسم له ولا أثر. وبين الاعتراف والتخييل، تستمر السيرة الذاتية في مساءلة علاقتنا بذاكرتنا، بالعالم الذي نشغله مؤقتًا ونرحل عنه، تاركين خلفنا حكايات ناقصة تحاول كل كتابة أن تعيد ترميمها ولو بقدر يسير.


توصية قراءة:📚

تحل اليوم ذكرى وفاة الكاتب الأمريكي بول أوستر، أحد أبرز كتّاب ما بعد الحداثة وصاحب تجربة سردية منفردة.

من أبرز أعماله المنفردة تباريح العيش (1996)، نص سيريّ صادق وشجاع، يروي فيه أوستر تفاصيل معيشته القاسية في شبابه من الطفولة المتوترة بسبب المال، إلى مراهقته ومحاولاته الأولى في الأدب، ومواجهته لعالم النشر بخيباته المتكررة. تحدث فيه عن البدايات الهشة التي عادةً ما تُمحى عندما يلمع الاسم لاحقًا. وقد وصفه أحد النقاد بأنه سيرة لم يسبق لكاتب أن كتبها من منظور المال وهو وصف دقيق لكتاب يختار أن يسرد التجربة من زاوية الإبداع ومن زاوية العيش بكل تباريحه.


video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

في تشتيت التشاؤم وتجميل الأقدار🧿🦉 Edward Hopper عبير اليوسفي ١٨ يونيو ٢٠٢٥ كانت جدتي تتوجس كلما نبح كلب في المساء، معتبرةً صوته نذير موت يلوّح من بعيد. أمي ورثت هذا التوجس كأنه إرث لا يُرد. أما صديقتي الهندية التي لم تكن تجيد العربية لكنها تجيد قراءة الإشارات، فكانت تنهرني حين أحرّك قدمي أثناء الجلوس، وتقول إنها علامة على فقد أحد الوالدين. وما يظل شائعًا هو رفة العين: فإن كانت اليسرى قالوا “ستبكين”، وإن كانت اليمنى قيل “رزق أو سيعود غائب”. لكن ما أحببته أكثر هو حكة كفّ اليد، الحكة الصغيرة...

عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮 عبير اليوسفي ١١ يونيو ٢٠٢٥ مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟ تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا. وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى...

تأملات في المرارة🧘🏻♀️❤️🩹✨ أفروديت آلهة الجمال عبير اليوسفي ٤ يونيو ٢٠٢٥ هل فكرت يومًا في سر الجمال ولماذا يدهشنا ويؤلمنا في آنٍ واحد؟ طُرح على إدغار موران سؤال حول الدافع الذي قاده إلى الكتابة عن الجمال في سن الخامسة والتسعين. فأجاب بأن السينما والأدب والشعر كانت منذ طفولته الأولى الركائز التي شكّلت رؤيته للعالم وصاغت ملامح شخصيته. عاش يتيمًا في العاشرة، فوجد في الفن ملاذًا يكتشف من خلاله ذاته ويمدّ صلته بالحياة. وأوضح أنه تأثر بقراءة رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، والمعزوفة التاسعة...