لماذا أحب أدب اللاتينية؟


إعادة تشكيل أدبي ✊🏻🔥

Author

عبير اليوسفي


تراني إحداهن أميل نحو القارة اللاتينية كلما طلبت مني توصية للقراءة، وأنا التي لطالما شدّني الأدب اللاتيني أكثر من غيره لما يمتلكه من قدرة استثنائية على تصوير معاناة الإنسان بدقة. ربما يعود ذلك إلى ما وصفه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا: إن الكاتب في أمريكا اللاتينية يسير في الأنحاء حاملًا هموم شعبه على كتفيه.” لهذا يتسم أدبهم بحميمية إنسانية فريدة، يتقاطع فيها الواقع بالخيال في سردٍ يشرك القارئ في التجربة.

على مر التاريخ، شهدت هذه القارة تحولات جذرية بعد الثورة الكوبية ليس فقط على المستوى السياسي، بل في الأدب والفنون أيضًا. فقد أعادت الثورة تشكيل المشهد الثقافي، إذ ساهمت في ربط الإبداع بالقضايا الاجتماعية والسياسية، مما منح الأدب اللاتيني هوية أكثر وضوحًا وتأثيرًا. قبل ذلك، كان الأدب اللاتيني متأثرًا بشدة بالواقعية الاجتماعية، حيث ركز على تصوير القهر والظلم الطبقي والقمع السياسي، متأثرًا إلى حد كبير بالتيارات الأوروبية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كانت الكتابة تدور حول القضايا الوطنية، مثل الصراع ضد الاستعمار والديكتاتوريات، كما في رواية السيد الرئيس لميغيل أنخل أستورياس، التي تعد واحدة من أوائل الأعمال التي تناولت الاستبداد السياسي في أمريكا اللاتينية.

ومع ذلك، لم يكن الأدب اللاتيني قد حقق بعد الاعتراف العالمي الواسع، إذ بقي محصورًا داخل حدوده، موجهًا إلى النخب المثقفة مع قلة الدعم الحكومي وضعف انتشار دور النشر والمكتبات. لكن هذا الواقع تغير تمامًا مع اندلاع الثورة الكوبية التي كانت إيذانًا ببداية العصر الذهبي للأدب اللاتيني.

مثلت الستينيات والسبعينيات فترة ازدهار غير مسبوق، إذ برز ما عُرف بـ”حركة البوم” الأدبية، وهي ثورة ثقافية قادها كتاب مثل غابرييل غارسيا ماركيز، خوليو كورتاثار، ماريو فارغاس يوسا، وكارلوس فوينتيس. لم تكن هذه الحركة مجرد اتجاه أدبي، بل قفزة نوعية جعلت الأدب اللاتيني يحظى باهتمام عالمي. وتميزت هذه الفترة بانتشار أسلوب الواقعية السحرية حيث اندمج الواقع القاسي بالخيال لتصوير تحديات سكان أمريكا اللاتينية بطرق جديدة ومبتكرة. ومع حركة “البوم”، بات الأدب أكثر التصاقًا بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وأداة للتعبير عن معاناة الشعوب وآمالها. يمكن القول إنها كانت استجابة طبيعية للثورة، إذ صاغ الأدب الطموحات والأفكار التي ألهمتها بأسلوب سردي فريد. ساعدت وسائل الإعلام كذلك في تعزيز انتشار هذا الأدب، حيث لعبت الصحف والمجلات الأدبية دورًا كبيرًا في الترويج لأعمال الكتاب اللاتينيين. كما أن التغطية الإعلامية للثورة الكوبية سلطت الضوء على أفكار ومواقف المثقفين، ما أسهم في إيصال أعمالهم إلى جمهور أوسع خارج القارة.

خلال هذه المرحلة، ظهرت أعمال شكلت محطات رئيسية في تاريخ الأدب، مثل مئة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز، التي روت حكاية سبعة أجيال من عائلة بوينديا في بلدة ماكوندو الأسطورية، بأسلوب الواقعية السحرية الذي أصبح السمة الأبرز للأدب اللاتيني. كانت هذه الرواية علامة فارقة، حصد عنها ماركيز الفوز بجائزة نوبل. وفي السياق نفسه، نجد السيد الرئيس لميغيل أنخل أستورياس، التي تناولت الاستبداد السياسي، وجعلت كاتبها أول أديب لاتيني يحصد نوبل عام 1967. كما قدمت هذه المرحلة أعمالًا تجريبية فريدة، مثل لعبة الحجلة لخوليو كورتاثار، وهي رواية يمكن قراءتها بطرق متعددة، مما منح القارئ دورًا أكثر تفاعلًا في السرد. وكانت المدينة والكلاب لماريو فارغاس يوسا إحدى أبرز الروايات التي تناولت القمع العسكري في بيرو، وشكلت نقطة انطلاق الكاتب نحو العالمية، حتى فاز بجائزة نوبل عام 2010. هذه الأعمال وغيرها لم تقتصر تأثيراتها على أمريكا اللاتينية، بل غيرت وجه الأدب العالمي، وجعلت من كتاب القارة رموزًا أدبية. كما أن الواقعية السحرية التي ميزت هذه الفترة، فتحت آفاقًا جديدة في الكتابة السردية وأثرت في أجيال لاحقة من الكتاب حول العالم.

لم تقتصر التحولات الثقافية بعد الثورة على الأدب فقط، بل امتدت إلى الموسيقى والفنون التشكيلية والمسرح. ومن أبرز الحركات الموسيقية التي ظهرت في تلك الفترة “نويفا تروفا” (Nueva Trova)، والتي نشأت في كوبا في الستينيات، كمزيج بين الموسيقى التقليدية والأغاني ذات الطابع الثوري. كانت “نويفا تروفا” استمرارًا لحركة “التروفا” الكوبية القديمة، لكنها تميزت بمحتواها السياسي والاجتماعي، حيث حملت قضايا الشعب الكوبي في كلماتها، وركزت على العدالة الاجتماعية والاستقلال. دعم النظام الحاكم هذه الحركة، ورأى فيها وسيلة لنشر القيم الاشتراكية، فأنشأ مؤسسات لتعليم الموسيقى وتعزيز الفنون. لكن في المقابل، فرضت الحكومة الكوبية رقابة صارمة على الأغاني ذات التوجه المعارض، كما حظرت موسيقى الروك آند رول، باعتبارها رمزًا للإمبريالية الأمريكية. دفع هذا الحظر الفنانين للبحث عن بدائل موسيقية تعبر عن هويتهم، مما أدى إلى تطور أنماط جديدة مثل السون والباچاتا، إلى جانب بروز الجاز اللاتيني، الذي دمج بين إيقاعات أفرو-كوبية وموسيقى الجاز الأمريكية. برزت أسماء موسيقية مثل سيليو غارسيا وبابلو ميلانيس، الذين استخدموا الفن كوسيلة للتعبير عن قضايا مجتمعهم. رغم الرقابة، استطاع الفنانون تحويل القيود إلى فرصة للإبداع مما جعل الموسيقى الكوبية تجذب الانتباه عالميًا، وتصبح رمزًا لهوية فريدة تعكس تجارب الشعب وتحدياته في تلك الفترة.

التغيير الذي اجتاح كوبا وأمريكا اللاتينية بعد الثورة كشف عن القوة المهمة للفنون، لا بوصفها انعكاسًا للتحولات الاجتماعية فحسب، بل كفاعل رئيس في تشكيلها. الأدب والموسيقى لم يكونا مجرد صوتٍ للهوية، بل كانا أداةً لإعادة خلقها، لترميم ذاكرة الشعوب وصياغة مصيرها. وربما لهذا أجد نفسي منجذبة إلى الأدب اللاتيني، ليس فقط كحكايات تُروى، بل كشهادات حية على نضال الإنسان، على توقه العنيد للحياة، حتى وهو يحدق في مصيره وجهًا لوجه.


في حضرة الموسيقى اخترت “Libertango” 🎶

video preview

مقطوعة من كلمتان الحرية والتانغو، وهي عمل موسيقي يجسد تحرر التانغو من قيوده التقليدية، كتبها أستور بيازولا عام 1974. وكانت إعلانًا لثورته الموسيقية التي أعادت تعريف التانغو، وأعطته مكانة جديدة على الساحة العالمية .

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

الوحش الذي يشبهنا🧟♂️😟 فيلم فرانكشتاين 2025 عبير اليوسفي ١٢ نوفمبر ٢٠٢٥ بالتأكيد مر عليك منشور أو مشهد يتحدث عن الفيلم الجديد المقتبس من رواية فرانكشتاين، وربما شاهدت العمل فاندهشت من سطوة الصورة، ومن الأداء الذي جعل المخلوق أكثر إنسانية من صانعه. غير أن ما يجعل هذه الرواية متجددة ليس السينما التي أعادت إحياءها، لكنها الشرارة الأولى التي ولدت في ذهن فتاة في عام بلا صيف نتيجة انفجار بركاني غطى أوروبا بالغيوم والبرد. وفي بيتٍ صغيرٍ قرب بحيرة جنيف اجتمع بعض الشباب من الشعراء والفلاسفة وفتاة في...

رجعت الشتوية❄️⛄️ شتاء كلود مونيه عبير اليوسفي ٥ نوفمبر ٢٠٢٥ لابد أن الشتاء قد أعلن عن قدومه حيث تعيش، سواء بارتداء الصوف كما أفعل أنا، أو ببرودةٍ خفيفة تميل إلى اعتدال أجواء المساء. وما أحب ملامح الشتاء وما أقساها في آنٍ، تلك التي تتجلى في مواجهة انخفاض درجات الحرارة كما في السبات الفكري، أو ما تسميه صديقتي بـ«فقدان الشغف الشتوي». حتى الكتب تلمس تبدل الفصول داخلها. فليس الأمر مجرد إعدادٍ لقائمة قراءة موسمية كما يفعل القرّاء المتحمسون، إذ لا يُستدعى الشتاء في الأدب كخلفية مناخية فقط، لكن يُمنح...

عن الخيانة الجميلة🎞️🎬 The Godfather عبير اليوسفي ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥ لا تبدو الرواية قابلة للعبور بسهولة إلى الشاشة، ليس لأن اللغة أضيق من الصورة، لكن لأنها تُنتج عالمها في عزلة، في تلك المسافة بين الكاتب وقارئه. كل ما في الرواية يُبنى من داخل اللغة، من الإيقاع والسكوت، من الحضور الغائب للشخصيات، بينما الدراما تفعل العكس، تُعلن ما كان يُخفى، ولهذا فإن نقل الرواية إلى الدراما يعني إعادة خلقها من جديد. نُقلت رواية مئة عام من العزلة إلى الشاشة عبر مسلسل من إنتاج “نتفلكس”، في مغامرة طال انتظارها منذ...