دفاتر ملاحظات منسية


"نظرة باتجاه نوافذ الإله"🌅

Author

عبير اليوسفي

هل تأملت يومًا كيف تستهلكنا التكنولوجيا بشكل مفرط حتى نسينا شكل الحياة قبلها. كيف كان يقضي المرء وقته قبل أن تمتد الأيادي وترتبط بشاشات صغيرة محمولة، وتختصر أوقاته إلى نقرات سريعة. متى تسلل حضورها الطاغي إلى كل تفاصيلنا من إعداد فنجان القهوة إلى قراءة ماقبل النوم؟

خلال حملة تفتيشية أقوم بها لصناديق قديمة، وجدتُ دفاتر ملاحظات منسية. خط غير متناسق، أفكار سريعة، أطراف أوراق مقصوصة، رسوم هامشية بلا معنى، علامات تعجب هنا وهناك. كان ثمة شيء في تلك الفوضى، أثر شخصي لا يتركه النص الرقمي، قبل أن نستبدل دفتر الملاحظات بمسودة الأجهزة، وقلم الحبر بقلم إلكتروني لا حبر له.

في محاولة مني لاستعادة تقدير القلم والورقة، حملتُ الدفتر عازمة على كتابة مسودة هذه النشرة. لكنني لم أكمل سوى نصف صفحة قبل أن يداهم الألم أصابعي التي نست مشقة الكتابة اليدوية. جاءت هذه التجربة بعد مشاهدتي قبل أيام للفيلم الياباني" Perfect Day"، الذي يصور حياة رجل يستمتع بروتينه اليومي منغمساً في تأمل التفاصيل الصغيرة، دون النظر إلى شاشة جامدة. لم تكن التجربة مجرد كتابة نص، بل محاولة لاستعادة لياقة الحواس كممارسة الكتابة بالقلم، ومحاولة تنظيم الأفكار على ورق ملموس. لأنه لا شيء يشبه صوت القلم الذي يصدره أثناء الكتابة، أو حتى الشعور بالإنجاز عندما تغلق دفتر ملاحظاتك بعد ساعات طويلة.

ورغم أن للكتابة الرقمية ميزاتها، إلا أنها تفتقد في منح الكاتب الوقت الكافي للتأمل والتفكير بهدوء كما تفعل الكتابة اليدوية التي تفرض إيقاعًا أبطأ وأكثر وعيًا، ولهذا تظل حاجتنا إلى فكرة التباطؤ ضرورية. حتى علاقتنا بالقراءة طالتها التغيرات التكنولوجية، حولتها من تجربة غارقة في تفاصيل ملمس الورق، ورائحة الحبر، علامات الصفحات المطوية، إلى نصوص مضاءة تمر سريعًا أمام أعيننا. صار من السهل أن نقرأ، لكن من الصعب أن نتذكر ما قرأناه. ومنذ مدة وأنا أعاني من نسيان المقروء وصعوبة تذكر مصدر ما أحفظه. هل كانت الكتابة والقراءة الورقية تمنحنا صلة أعمق بأفكارنا وعمراً أطول للكلمات في ذاكرتنا ؟

رغم أنني ما أزال قارئة للكتب الإلكترونية منذ ٢٠١٢ حتى الآن، ولأسباب عديدة منها ارتفاع أسعار بعض الأعمال عن المألوف، وصعوبة توفير الكتب المطلوبة، وغيرها من العوامل التي دفعتني أنا وغيري للجوء إلى القراءة الإلكترونية، إلا أن هذا الشكل من القراءة لطالما كان محل جدل في كونه يمثل بديلاً للكتب الورقية؛ لكن في المقابل أتاح الوصول إلى الكتب في ظل ظروف كان يمكن أن تؤدي إلى انقطاع القراءة تمامًا.

القراءة خارج حدود الورق

حين سُئل عن رأيه في الكتب الإلكترونية، عبر الكاتب ألبرتو مانغويل عن تفضيله للكتب الورقية، وأنه لا يتعاطى معها أبداً، كونه لا يحب النصوص الافتراضية. وأضاف أنه يحب أن يحمل الكتاب بين يديه، ويشعر بحجمه، ويقلب صفحاته، ويُدوّن ملاحظاته في هوامشه. ورغم تقديره للتكنولوجيا، إلا أنه يرى أن الشاشة تجعل الكتب كلها تبدو متشابهة، سواء كانت رواية لدان براون أو نصًا لأفلاطون. تحدث في الحوار الذي ضمنه كتابه "حياة متخيلة" أن لديه مكتبة تضم 40,000 كتاب، ولم يسبق له أن قال: “لا أملك هذا الكتاب”. وفي حال عدم امتلاكه لأي كتاب، يسعى لشرائه، رغم أنه لا يعتقد أنه سيقرأ كل هذه الكتب. من خلال هذا الرأي، يوضح مانغويل كيف أن الكتب الورقية تمثل تجربة غنية وملموسة لا يمكن أن تحل محلها النصوص الرقمية.

على النقيض، فاجأني الدكتور والكاتب اليمني هاني الصلوي مدير مؤسسة أروقة للدراسات والنشر، في مقابلة له بموقفه المدافع عن الكتاب الإلكتروني. يرى الصلوي أن الكتاب الإلكتروني لا يمثل تهديد للكتب الورقية، بل امتداد لها وثورة في طرق الوصول إلى المعرفة؛ وأنه يزيد من فرص القراءة ويوسّع دائرة انتشار النصوص، خصوصًا بين الأجيال الحديثة التي لم تعش الحميمية التي صنعها الكتاب الورقي، ولم تختبر طقوس اقتنائه وتقليب صفحاته.

قد أوافق رؤيته رغم أني أرى في الكتاب الورقي ارتباطًا بالذاكرة والتجربة الحسية، إلا أن الإلكتروني له ميزاته المرتبطة باللحظة والسرعة والانسيابية؛ فهو لا يحتاج إلى مساحة في رف المكتبة، ولا إلى رحلة بحث مضنية. حاضر دائمًا، محمول في شاشة صغيرة، يتيح لك التنقل بين مئات العناوين في لحظة. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل تكفي السهولة وحدها لتشكّل تجربة قراءة متكاملة؟ أم أن القراءة تحتاج إلى ما هو أكثر من النص ذاته، إلى العلاقة الحميمة التي يخلقها الورق، وإلى البطء الذي يفرضه على القارئ !

قد لا تكمن الإجابة في الوسيط نفسه ورقيًا كان أم إلكترونيًا، بل في التحولات التي طرأت على طريقتنا في العيش والتفكير والتي باتت أكثر انشغالاً واعتماداً على الأجهزة، وأقل قدرة على التمهل والتأمل. في روايته الشهيرة "البطء" يتسائل ميلان كونديرا " لِمَ اختفت متعة البُطء؟ أين هم متسكعوا الزمنِ الغابر؟".

الأمر لا يتعلق بالرفض المطلق للتكنولوجيا، ولكن بإيجاد توازن. أن نلتفت إلى السماء بأعيننا دون عدسة أو كما أسماها كونديرا نحتاج " نظرة باتجاه نوافذ الإله"، نكتب بالقلم أحيانًا كي نتذكر أننا نملك خطًا مميزًا، ونقرأ من الورق أحيانًا كي لا تتحول الكتب إلى مجرد ملفات. نحتاج أن نبقي أثرًا ملموسًا لنا في عالم سريع يتجه إلى أن يصبح بلا أثر، وتتحول فيه الذاكرة إلى سحابة رقمية قابلة للمحو.


ظلال مكتبة : 📚

•تحديثات القراءة :

يصاحبني كتاب ياسر ثابت بعنوان "برتقال وأشواك أدب برائحة البارود". الكتاب يعد رؤية نقدية مقدمة في ثلاثة فصول، يتناول في الفصل الأول الأدب الفلسطيني، من خلال أهم الروايات الفلسطينية والقصائد. كما يعرض حركة الترجمة وشخصية العربي في الرواية العبرية والشخصية اليهودية في الرواية العربية عبر عدة أعمال مثل “زقاق المدق” لنجيب محفوظ، و”قاع اليهود” للكاتب السعودي علي الأمير التي تدور أحداثها في حي القاع في صنعاء. أما الفصل الثاني، فخصص للشعر والأدب والرواية اليمنية، تحت عنوان"الرواية اليمنية.. سرد برائحة البارود"، استعرض تاريخ الرواية من خلال ثلاثة كتب هي «قراءة في تاريخ الرواية اليمنية والبنية السردية في ثلاث روايات؛ مئة عام على إصدار أول رواية بتكنيك معاصر » تأليف الروائيّ والباحث أحمد عبد الله مثنى، و«الرواية اليمنية في الألفية الثالثة… التقنيات السردية ورؤية العالم» تأليف سهير رشاد السمان، و«الكتابة السردية في اليمن» تأليف محمد جازم. الفصل الثالث تحدث عن عالم الرواية. تأتي مقالاته بشكل خفيف وممتع، وثريه بالمصادر التي ناقشها واستمد منها أفكاره. في مقدمته يقول :

❞ هنا، لا نمارس النقد من أجل النقد، بل «من أجل التحرر من كل ما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي. والهدف فسح المجال للحياة أن تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها»، ❝

•توصية سريعة:

رواية البوصلة للكاتب الفرنسي ماتياس إينار، الحائزة على جائزة غونكور عام 2015. رواية ذات نفس طويل ومواضيع متعددة، تستكشف العلاقة بين الشرق والغرب من خلال رحلة يخوضها بطل الرواية، عالم الموسيقى النمساوي فرانز ريتر، الذي يعاني من الأرق في ليلة طويلة تفتح أمامه أبواب الذكريات والتأملات التاريخية والثقافية. يستعرض الكاتب التأثير العميق للثقافة الشرقية على أوروبا، متتبعًا سيرة مفكرين ومستكشفين تأثروا بالشرق، من دمشق إلى طهران وإسطنبول. ويعيد التفكير في ماضيه وعلاقته بصديقته سارة. الرواية مكتوبة بأسلوب تأملي وغني بالإحالات الأدبية والموسيقية، مما يجعلها مميزة على المستوى الثقافي والفكري.


ظلال موسيقى 🎧

أصل هنا وأودعك باقتباس من رواية البوصلة، على أمل أن يتجدد الحديث📚

❞ الموسيقى ملجأ بديع يقينا عيوب الحياة وتدهور الجسد❝
video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮 عبير اليوسفي ١١ يونيو ٢٠٢٥ مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟ تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا. وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى...

تأملات في المرارة🧘🏻♀️❤️🩹✨ أفروديت آلهة الجمال عبير اليوسفي ٤ يونيو ٢٠٢٥ هل فكرت يومًا في سر الجمال ولماذا يدهشنا ويؤلمنا في آنٍ واحد؟ طُرح على إدغار موران سؤال حول الدافع الذي قاده إلى الكتابة عن الجمال في سن الخامسة والتسعين. فأجاب بأن السينما والأدب والشعر كانت منذ طفولته الأولى الركائز التي شكّلت رؤيته للعالم وصاغت ملامح شخصيته. عاش يتيمًا في العاشرة، فوجد في الفن ملاذًا يكتشف من خلاله ذاته ويمدّ صلته بالحياة. وأوضح أنه تأثر بقراءة رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، والمعزوفة التاسعة...

جدليات فيسبوكية🌋 لوحة للفنان الفرنسي Honoré Daumier عبير اليوسفي ٢١ مايو ٢٠٢٥ بعد انتشار نص أثار جدلًا واسعًا على منصة فيسبوك قبل أيام. تباينت الآراء بين من قرأه كتعبير حرّ ينتمي إلى فضاء الخيال، ومن رآه خطابًا يقترب من حدود التحريض على التعدّي. لكن، في وسط هذا الجدل، ينهض سؤال قديم لا يشيخ: هل يتحمل الأدب مسؤولية ما يقوله؟ منذ أن تحررت الكتابة من سلطة الأخلاق بمعناها التقليدي، أُعيد تعريف الأدب بوصفه فعلاً متخيلًا لا يُقاس بالحقيقة أو القانون أو الدين. قيل إن لا قيد على المخيلة، ولا رقابة...