الأدب تحت الضغط⚡️😖😕
عبير اليوسفي
١٠ سبتمبر ٢٠٢٥
في أوائل الأربعينيات، طرق رجل غامض باب حياة الكاتب الأمريكي هنري ميلر مقدمًا نفسه كجامع كتب، اقترح عليه مشروعًا بدا في ظاهره مهينًا وهو كتابة قصص إيروتيكية لعميل ثري مجهول مقابل أجر ثابت، لتبقى في أرشيف خاص بعيدًا عن النشر. ميلر الذي كان قد اشتهر بأسلوبه الجريء في أعمال مثل مدار السرطان، سخر من الفكرة أول الأمر، لكن الحاجة المادية دفعته إلى القبول. لكن ما لم يتوقعه أن صديقته القريبة آنذاك الكاتبة أناييس نين ستنضم إليه في هذا المشروع، وأن هذه التجربة العابرة ستترك أثرًا في الأدب الحديث.
تلك التجربة لم تكن مجرد نزوة عابرة، فقد كتبت نين في مذكراتها أن كتابة هذه القصص ليست عمل مأجور فحسب، كانت تمرين على صياغة لغة جديدة للجسد والحواس. كتب ميلر باندفاع خام ومباشر، بينما جاءت كتابات نين حسية وشاعرية، متأرجحة بين الواقع والرمز. لكن هذا العمل الذي بدأ تحت ضغط المال، فتح أمامهما أبوابًا إبداعية لم يكن ليُكتب لها أن تُفتح في ظروف أخرى. الحاجة التي قد تُرى مذلة للكاتب، تحولت إلى محرك أطلق حرية غير متوقعة. فهل يمكن أن يكون الإكراه هو الذي يحرر الإبداع أحيانًا؟
التاريخ الأدبي يجيب بالإيجاب. تشارلز ديكنز كتب رواياته مسلسلة في الصحف ليؤمن دخلاً ثابتًا، فصار هذا الشكل المولود من السوق سمة مميزة للسرد الإنجليزي. فيودور دوستويفسكي كتب تحت ضغط الدائنين، يلهث لإنهاء أعمال مثل الجريمة والعقاب، حيث تداخلت معاناته المادية مع موضوعاته عن الفقد والصراع الإنساني. نجيب محفوظ عمل كاتبًا للسيناريو ليضمن استقراره، ومنحته تلك التجربة مساحة لإنجاز رواياته الخالدة. وغابرييل غارسيا ماركيز كتب مئة عام من العزلة وهو يكافح لتأمين قوت عائلته، ليترك أثرًا غير الأدب العالمي. يبدو أن الضغط والحرمان ليسا مجرد عائقين، كانا محرضين على ابتكار أشكال جديدة للقول.
بالعودة إلى قصة ميلر، من كان جامع الكتب الغامض في حياة ميلر ونين؟ لم يُعرف اسمه على وجه اليقين، ولم يتضح إن كان حقيقيًا أم مجرد وهم. نين نفسها تساءلت إن كان العميل الثري مجرد حيلة من الجامع ليكتب لنفسه. هذه الضبابية ليست تفصيلًا ثانويًا، لأنها تكثيف لفكرة أهم، أن الأدب غالبًا يُكتب تحت طيف قارئ غائب، مجهول، يُفترض وجوده في مكان ما، يطلب النص ويضع شروطه. هذا القارئ هو استعارة للسوق، للآخر الذي ينتظر النص ويضغط عليه حتى في غيابه. كل كاتب على نحو ما يكتب لهذا الغائب، سواء كان جمهورًا، ناقدًا، أو حتى حاجة مادية.
تلك النصوص التي كتبتها أناييس نين نشرت بعد عقود في كتاب دلتا فينوس، وعندما ظهرت، قُرأت كلحظة تأسيسية في أدب الحواس. لقد شرعت النصوص النظر إلى الإيروتيكا كجنس أدبي مشروع، يجمع بين الجسد والخيال والرمز. ما بدأ كعمل مأجور تحول إلى إرث أدبي أثر على كتاب ونقاد القرن العشرين، وفتح الباب لمناقشة الكتابة الحسية بوصفها جزءًا لا يُنكر من التجربة الإنسانية. ولعل في هذا ما يذكرنا أن الأدب لا يعيش في برج عاجي، هو يولد في تفاعل مع ضرورات الحياة. شكسبير كتب مسرحياته بطلب من رعاة مسرح “ذا غلوب”، موازنًا بين إرضاء الجمهور وصوته الخاص. مارسيل بروست كتب البحث عن الزمن المفقود وهو يعي توقعات طبقته البورجوازية، لكنه حول تلك الحدود إلى تحفة عن الزمن والذاكرة. لذا يتضح لي أن الأدب هو ابنٌ لظرفه الاقتصادي والاجتماعي.
من حكاية ميلر ونين نرى أنها لم تصبح فضيحة إيروتيكية للكاتب، لأنها تحولت إلى مرآة لعلاقة الأدب بالحياة. فالكاتب ليس كائنًا معلقًا في الفراغ، هو جسد يعيش تحت ضغط الحاجة، يكتب كما يكتب الجميع تحت وطأة الخبز. غير أن لحظة الكتابة تحول هذا الضغط إلى لغة تتجاوز الظرف لتصنع التاريخ.
وفي العصر الرقمي حيث يكتب آلاف الشباب منا تحت ضغط السوق الافتراضي وتوقعات القراء، نرى التوتر نفسه بين الحاجة والحرية. وربما يمكن التفكير إدا ماكان للإبداع أن يزدهر بلا ضغط، أم أن الضغط ذاته هو ما يصنع الأدب؟
•حوار الظلال : 💬☕️
هل التشييء يفسد الجمال؟
ثمة فكرة فلسفية شهيرة تقول إن كل شيء يخرج للعلن يصبح تشييء، أي إنه يفقد جزءًا من حيويته الداخلية، يتحول من تجربة حية إلى صورة أو مادة يمكن استهلاكها. وهذا يشمل حتى اللحظات الحميمية، التي في جوهرها تُعاش. عند نقلها للعلن سواء بحكي أو بصورة أو كتابة، تبدأ هذه اللحظات تتحول إلى كيان منفصل عن ذاتها، شيء يمكن أن يُحاكم أو يُستهلك من الآخرين. هذا التحول يغير طبيعة التجربة نفسها.
على سبيل المثال، لحظة جمال داخلية بينك وبين نفسك، بمجرد أن تتحول إلى سرد، تصبح قابلة للقراءة والتأويل والاقتباس… وهكذا تختلف عن حقيقتها الأصلية. وعليه: هل التشييء يفسد الجمال أصلًا؟ أم هو مجرد شكل آخر من الوجود، حيث يتحول الجمال الخاص إلى جمال مشاع، لكنه يخسر خصوصيته؟
أرى أن التشييء لا يفسد الجمال بالكلية، لكنه يغير نوع وجوده. بمعنى أن الجمال الخاص حين يكون في دائرة السرية يعيش بكامل حيويته. لكنه حين يُشارك يتحول إلى جمال مشاع يفقد شيئًا من فرادته مقابل أن يكتسب حياة أخرى عبر الآخرين. وهذا قد يكون إثراءً، لكنه دائمًا ينطوي على خسارة خفية مثل خسارة العفوية. وشيء من الخصوصية يكون الثمن الذي ندفعه بمجرد المشاركة.