لحظة التهديد بالخسارة


ماذا لو تخلى المعنى عنك؟🔔😱

Author

عبير اليوسفي

في نهاية عام 1938، سقط خورخي لويس بورخيس جريحًا بسبب حادث منزلي بسيط ظاهريًا، لكنه كاد أن يودي بحياته. أصيب بتسمم دموي، وخيم عليه شبح الموت والجنون، فاستبد به رعب خفي أن يفقد قدرته على الكتابة، أو أن يتعطل عقله عن الفهم. في المستشفى، طلب من والدته أن تقرأ له من كتاب للكاتب البريطاني سي. إس. لويس. وبعد أن قرأت له انفجر باكيًا، سألته “لماذا تبكي؟”، فأجاب: “لأني أفهم.”

بهذا الجواب حدد بورخيس لحظة العودة إلى الذات. كان يتحقق من أن عقله لا يزال يعمل بعد تهديد من فقدانه. كتب بعدها قصته الشهيرة بيير مينار، مؤلف دون كيخوته، وقال إنها كانت اختبارًا لقياس ما إذا كان لا يزال قادرًا على التفكير. هذه التجربة الفردية تُثير سؤال: ماذا يبقى من الذات حين يُصاب العقل باهتزاز؟

في التأملات الديكارتية، تُعرّف الذات من خلال الفكر: أنا أفكر، إذن أنا موجود.” غير أن تجربة بورخيس تضع هذه المعادلة أمام احتمالات أكثر هشاشة ماذا لو لم أعد واثقًا من قدرتي على التفكير؟ بمعنى انهيار القدرة على الفهم، على صياغة المعنى.

وإذا وسعنا هذه التجربة من خصوصية بورخيس إلى معناها الإنساني الأوسع، فسنجد أن كل فرصة تفلت، كل احتمال نراه يتراجع، يمكن أن يوقِف الإنسان عند المسافة الفاصلة بين ما يملكه وما كان يظن أنه يملكه. في هذه المسافة يظهر التهديد كزلزال داخلي يزعزع بنيان الهوية ذاتها.

يتجلى هذا النمط من التهديد بوضوح في رواية الجهل لميلان كونديرا، حيث يُقدَّم الفقد كخلل في وظيفة المعنى. بطل الرواية العائد إلى وطنه بعد سنوات من المنفى يواجه زمنًا لم يعد يتسق مع ذاكرته. المدينة التي يعرفها لم تعد كذلك، اللغة التي نطق بها لم تعد له، والذاكرة التي حملها لم يفقدها لكنها لم تعد قابلة للاستخدام. في هذه الحالات، تتجلّى الخسارة في انهيار قدرتها على حمل المعنى. وتصبح الهوية عندها موضوع شك لأنها لم تعد قادرة على تثبيت نفسها.

يكتب باسكال في تأملاته عن بؤس الإنسان بلا اله، واصفًا ما يسميه الترف العقلي الذي يعيشه الإنسان حين يؤجل مواجهة مصيره. ثم تأتي لحظة تهوي فيها هذه القدرة على الإرجاء، فيسقط الإنسان في فراغ الأسئلة. ذلك الفراغ الذي يسكنه اليقين المؤلم بأن لا إجابة متاحة، وأن على الذات أن تواصل العيش رغم غياب الأساس.

عند هذا الحد تُختبر الذات تحت الضغط. والاختبار في جوهره يكشف عن الهشاشة. وهذه الهشاشة حين يُعترف بها تتيح إعادة بنائها على أساس أكثر واقعية. فنحن بدلاً من أن نُعرف أنفسنا بما نملكه، يصبح التعريف بما يتبقى حين نفقد. وقد لخّصت سيمون فايل هذه الحالة حين قالت أن الانقطاع المفاجئ للقدرة على الفعل، هو أكثر ما يُربك الروح. فالعجز يُربكك لأنه يفرض مراجعة مؤلمة لتعريف الذات كفاعل. كل ما اعتُبر جزءًا من الهوية يصبح فجأة موضع شك. فتظهر الإرادة كاستجابة لأزمة.

يخطر في بالي وأنا أكتب، مسلسل “Dark Matter” المبني على رواية بليك كراوتش، حيث يُختطف البطل جايسون ويجد نفسه ينتقل بين عوالم متفرعة من حياته، عوالم بُني كل منها على اختيار لم يتخذه. في كل واقع بديل يعيش نسخة مختلفة من ذاته، تُقابله كأسئلة ماذا لو اخترت هذا العمل؟ ماذا لو لم أتزوج؟ ماذا لو لم أُنجب؟. يصبح السفر هنا رمزيًا لاختبار الوعي في أقسى حالاته حين يرى الإنسان احتمالات وجوده تتكاثر أمامه، دون أن يعرف أيها يُمثله فعلًا. هذا النوع من التهديد يتجسد في اهتزاز مركز الثبات الذي اعتقده الإنسان جوهرًا له. كما تساءل بورخيس: “هل أنا ما زلت أفهم؟”، يتساءل جايسون: “هل أنا ما زلت أنا؟” والجواب في الحالتين ليس يقينًا يُطمئن، وإنما اضطرارٌ إلى مواصلة السير وسط الحيرة

تكمن الخسارة أحيانًا في اكتشاف أن ما اعتبرناه ثابتًا لم يكن كذلك. قلق بورخيس من فقدان قدرته على التفكير والكتابة، دفعه لتحول جذري في أسلوبه. شعر أن الفرصة قد تُنتزع منه، فكتب كما لو أنه ينجو. ومن تلك اللحظة اتخذت قصصه شكلًا جديدًا .

شعور التهديد بالخسارة لا يغير الإنسان فحسب، هو يكشف له ما لم يكن يراه. وعند الحافة قد يصبح العبور ضرورة تحفظ ما تبقى من الذات.


تحديثات قراءة: 📖

ولأن الحديث عن بورخيس لا ينتهي، ولأنني ممن يأسرهم ضوءه، وجدتني هذا الأسبوع أعود إلى قراءة كتابه “صنعة الشعر”. والذي يضمّ ست محاضرات ألقاها الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في جامعة بوينس آيرس عام 1967، يتأمل بورخيس في طبيعة الشعر، وتاريخه، وعلاقته بالذاكرة واللغة والعمى.

يبدأ من الشعر الأنجلوساكسوني، ويمرّ بهوميروس، وملتون، ويصل إلى مفارقة جوهرية أن الشعر، رغم كل ما كُتب عنه، يظلُّ عصيًّا على التعريف.

في إحدى محاضراته، يقول بورخيس شيئًا دقيقًا ومراوغًا في آن:

“إذا طُلب مني أن أُعرّف الشعر، فقد أقول إنه التعبير عن الجمال بكلماتٍ محبوكة بصورة فنية. هذا تعريفٌ يصلح للمعاجم، لكنه لا يُقنعنا.
هناك شيءٌ أعمق، شيءٌ نعرفه جيدًا إلى حدّ أننا لا نستطيع شرحه بكلماتٍ أخرى.”

يقارن بورخيس بين الشعر وبين تلك الأحاسيس والتجارب التي نعرفها تمامًا دون أن نقدر على قولها مثل مذاق القهوة، لون الفجر، الغضب، الحب، الحنين، أو حتى الوطن. فالشعر كما يراه، يُدرك بالرعشة، تمامًا كما قال القديس أوغسطين عن الزمن: “إذا لم تسألني ما هو، فأنا أعرف. وإذا سألتني، فلا أعرف.”

أغسطين في الاعترافات قال هذه الجملة عن الزمن، وهو يقصد أن الزمن مفهوم نعيشه، لكنه يتفلّت حين نحاول الإمساك به. وبورخيس يجد في هذه العبارة تطابقًا مذهلًا مع الشعر. فهو كالزمن، كلما حاولنا تعريفه ابتعد، وكلما نسيناه أو انغمسنا فيه، صار واضحًا، محسوسًا، حاضرًا.


موسيقى 🎶

يصادف الأول من يوليو يوم الأغنية اليمنية. وفي بلدٍ تئن ذاكرته تحت ثقل الخراب، تظل الموسيقى من الأشياء التي لم تُدنَّس بالحرب. وتذكرنا بأنه يبقى في هذا الركام ما يستحق أن نحتفي بوجوده.

ولهذا أترك هنا مقطعًا من الأوركسترا الحضرمية.

video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

كيف تغيرت صور الحرب؟ 💣🚀🛫 مشهد من فيلم Dunkirk(2017) عبير اليوسفي ٢٥ يونيو ٢٠٢٥ في الفترة الأخيرة أصبحت الأحاديث السياسية تسبق القهوة، وتتسلّل إلى كل مجلس، من مقعد الباص إلى صالة البيت، ومن لقاءات العائلة إلى الدردشة بين أصدقاء لم يكونوا يومًا مهتمين بالخرائط أو التوازنات الإقليمية "وأنا منهم". كانت الحرب على فظاعتها لحظة انكشافٍ للإنسان. انكشاف لا يرحم ولا يُخفي. منذ الإلياذة، كان المحارب يُسمى باسمه، وتُروى تفاصيل جسده الجريح، تُعزف ملحمة دمه وخوفه وقراراته. وحين رسم تولستوي مشاهد الحرب...

في تشتيت التشاؤم وتجميل الأقدار🧿🦉 Edward Hopper عبير اليوسفي ١٨ يونيو ٢٠٢٥ كانت جدتي تتوجس كلما نبح كلب في المساء، معتبرةً صوته نذير موت يلوّح من بعيد. أمي ورثت هذا التوجس كأنه إرث لا يُرد. أما صديقتي الهندية التي لم تكن تجيد العربية لكنها تجيد قراءة الإشارات، فكانت تنهرني حين أحرّك قدمي أثناء الجلوس، وتقول إنها علامة على فقد أحد الوالدين. وما يظل شائعًا هو رفة العين: فإن كانت اليسرى قالوا “ستبكين”، وإن كانت اليمنى قيل “رزق أو سيعود غائب”. لكن ما أحببته أكثر هو حكة كفّ اليد، الحكة الصغيرة...

عزيزي صاحب الظل الطويل✉️📮 عبير اليوسفي ١١ يونيو ٢٠٢٥ مرّت ستة أشهر وأنا أكتب “الظلال”. واليوم، في صدد إعداد هذه النشرة، تساءلت: لماذا أكتب ؟ وكيف بدأت الرحلة مع الكتابة؟ تعود بي الذاكرة إلى صغري، حين بدأت عادة صغيرة دون تحريضٍ من أحد. ومن نزعةٍ داخليةٍ للكتابة، بدأت أسجل يومياتي، متأثرةً بمسلسلات كرتونية كانت تفترض أن لكل طفلة دفترًا تخاطبه كما لو كان صديقًا. وكما هو متوقع، لم يكن لديّ الكثير لأقوله، فانتقلت من سرد الأحداث إلى كتابة كلمات الأغاني المفضلة، ثم إلى اختراع قصص ركيكة، وأخيرًا إلى...