عن الخيانة الجميلة🎞️🎬
عبير اليوسفي
٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥
لا تبدو الرواية قابلة للعبور بسهولة إلى الشاشة، ليس لأن اللغة أضيق من الصورة، لكن لأنها تُنتج عالمها في عزلة، في تلك المسافة بين الكاتب وقارئه. كل ما في الرواية يُبنى من داخل اللغة، من الإيقاع والسكوت، من الحضور الغائب للشخصيات، بينما الدراما تفعل العكس، تُعلن ما كان يُخفى، ولهذا فإن نقل الرواية إلى الدراما يعني إعادة خلقها من جديد.
نُقلت رواية مئة عام من العزلة إلى الشاشة عبر مسلسل من إنتاج “نتفلكس”، في مغامرة طال انتظارها منذ نصف قرن تقريبًا. وقد انقسم المشاهدون بين من رأى فيها محاولة جريئة لتجسيد الواقعية السحرية، وبين من اعتبرها استحالة فنية، لأن ما يُدهش في الرواية هو الطريقة التي تُروى بها. فكيف يمكن للصورة أن تلتقط الخيال حين يكون الخيال في اللغة ذاتها؟
ربما كان رولان بارت محقًا حين قال إن اللغة تُخفي بقدر ما تُفصح، فالكاتب يخلق مساحة للالتباس، للغموض المقصود، بينما المخرج مطالب بملء الفراغ بالصورة. وفي هذا التباين يحدث التحول، الرواية تمنح القارئ حرية التخيل، أما الدراما فتقدم خيالًا جاهزًا منسوجًا برؤية واحدة. ومع ذلك فإن الصورة ليست نقيض الخيال لأنها أحد وجوهه، شرط أن تمتلك الجرأة على إعادة بناء المعنى.
استطاعت بعض الأعمال السينمائية أن تتجاوز الرواية نفسها في تجسيد الفانتازيا وخلق عوالمها البصرية. منها فيلم سيد الخواتم مثلًا، كان بناء موازٍ لرواية تولكين، تفوق عليها في تصوير العالم الأسطوري وتفاصيله المدهشة. ومن خلال السينما اكتسب الخيال بُعدًا محسوسًا وخرجت الأسطورة من اللغة إلى الجسد البصري إلى الضوء والحركة. وكذلك الحال في سلسلة هاري بوتر الشهيرة التي حافظت على سحر النص الأصلي، لكنها خلقت سحرها الخاص بالصورة والموسيقى والإيقاع، حتى غدا المشاهد يعيش داخل العالم. بدت السينما نوعًا ما قادرة على أن تُنافس اللغة لتمنحها امتدادًا جديدًا في الخيال الإنساني.
في السينما العربية كان حضور الأدب مختلفًا. فقد وجدت الدراما المصرية في روايات إحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ منجمًا لا ينضب من الحكايات والرموز الاجتماعية. ورغم تفاوت التجارب إلا أن بعض الأفلام اقتربت من عمق الرواية مثل ثرثرة فوق النيل المقتبس من رواية محفوظ، والذي أراه أحد أكثر الأعمال صدقًا في ملامسة العبث واللاجدوى، تلك الحالة الوجودية التي تمس الإنسان العربي في عجزه الجماعي وخدره الأخلاقي أمام الانهيار. الفيلم لم يكتفِ بنقل الرواية، لكنه فضح ما وراءها ليكون النص في صورته المرئية أكثر إيلامًا.
في المقابل، قدمت الدراما السورية تجربة مختلفة أكثر وعيًا بخفة الفن، حين لم تتكئ على النصوص العظيمة بقدر ما استلهمت روح الأدب. يكفي أن نستعيد مسلسل مرايا الذي بنى عشرات الحكايات القصيرة على منوال أدب تشيخوف ويوسف إدريس وتولستوي، ليحول الموقف اليومي إلى مسرح فلسفي ساخر، والسخرية إلى نافذة على الوعي.
لكن هل تخون الدراما الرواية؟
ربما، لكنها خيانة تشبه الفداء. إذ لا يمكن تحويل اللغة إلى صورة دون أن تتغير، دون أن تفقد بعض صمتها لتكتسب نبرة جديدة. الدراما تبحث عن الحياة والمشهد يعيد اختراعها من داخلها، وكما يترك المخرج حرية التفسير، يترك الكاتب حرية التأويل. ولهذا اعتبر أومبرتو إيكو أن “كل قراءة هي ترجمة” وأن المعنى يُعاد توليده. يمكن القول إن كل اقتباس درامي هو قراءة مرئية للرواية، قراءة تتحدث بالصورة بدل اللغة.
وحين نفكر في اقتباسات مثل العراب التي تركت أثرها السينمائي والثقافي أو مرتفعات وذرينغ، ندرك أن النص الأدبي حين يُقتبس يتكاثر. يصبح كائنًا متحولًا يعيش حيوات مختلفة في كل وسيط فني. كما قال جيل دولوز الصورة ليست ظل الواقع، هي أحد أشكاله الممكنة، ما يعني أن الاقتباس ليس محاكاة للأصل، لكنه استمرارية له.
ومع ذلك، ماذا يخسر الأدب حين يتحول إلى شاشة؟
قد يخسر غموضه ولغته الداخلية، تلك المسافة التي تمنح القارئ حرية التخيل كما حدث مع عزلة ماركيز. لكنه أيضًا يربح الحركة، الوجه، اللهجة، الضوء، الريح التي تمر على ملامح الشخصية في لحظة لا تُكتب.
ليست المسألة في وفاء الدراما للنص، لكن في قدرتها على أن تكون نصًا آخر يجاوره. فالرواية حين تدخل الشاشة تخرج منها مختلفة، أكثر عُريًا وربما أكثر صدقًا. وكأن الفن أيًا كان شكله لا يعيش إلا حين يجرؤ على الخيانة الجميلة التي تُنقذ العمل من الجمود وتمنحه حياة ثانية.
•فيلم 🎬
قدم الكاتب المسرحي صامويل بيكيت تجربته السينمائية الوحيدة في عام 1965 بإخراج آلان شنايدر وبطولة أسطورة السينما الصامتة باستر كيتون فيلم بعنوان «Film».
تجربة صامتة، بلا حوار ولا موسيقى، تحمل تأملًا فلسفيًا حول الرؤية والوجود.
يدور العمل حول رجلٍ يحاول الهروب من كل أشكال المراقبة، من العيون، من الكاميرا، من الآخر، وحتى من ذاته. يبدأ الفيلم بلقطة لعين مفتوحة على اتساعها كأنها وعيٌ كونيٌّ يراقب. الكاميرا تلاحق البطل في الشوارع، ثم داخل شقة خالية حيث يبدأ بتغطية المرايا وإزالة الصور وطرد الحيوانات الصغيرة، كأنه يريد أن يمحو كل ما يمكن أن يرى انعكاسه أو حضوره. إلا أن محاولاته تبوء بالفشل لأن العين التي تراه لا تختفي، والوجود لا ينفصل عن فعل الإدراك.
الأسلوب البصري للفيلم الأبيض والأسود والمساحات الفارغة، وحركات كيتون الصامتة تجعل من المشاهدين شركاء في تجربة القلق والاختفاء، وتجعلهم يتساءلون هل يمكن أن توجد هوية بلا إدراك؟
لم يكن الفيلم محبوبًا على نطاق واسع عند عرضه في مهرجان البندقية عام 1965. وُصف بأنه غامض، عصيّ على الفهم، حتى أن بيكيت نفسه اعتبره فشلًا مثيرًا للاهتمام. لكنه كان إعلانًا عن موقف فلسفي أكثر منه تجربة فنية. بيكيت لم سعى إلى اختبار حدود الرؤية بالتفكير في ماذا يحدث عندما نحاول إلغاء العين التي تراقبنا؟.