شتاء الأدب والكتابة


رجعت الشتوية❄️⛄️

Author

عبير اليوسفي

لابد أن الشتاء قد أعلن عن قدومه حيث تعيش، سواء بارتداء الصوف كما أفعل أنا، أو ببرودةٍ خفيفة تميل إلى اعتدال أجواء المساء. وما أحب ملامح الشتاء وما أقساها في آنٍ، تلك التي تتجلى في مواجهة انخفاض درجات الحرارة كما في السبات الفكري، أو ما تسميه صديقتي بـ«فقدان الشغف الشتوي».

حتى الكتب تلمس تبدل الفصول داخلها. فليس الأمر مجرد إعدادٍ لقائمة قراءة موسمية كما يفعل القرّاء المتحمسون، إذ لا يُستدعى الشتاء في الأدب كخلفية مناخية فقط، لكن يُمنح البطولة كأحد الرموز الأشد تعبيرًا عن التحول والجمود والموت المؤقت. فالفصول في معناها الرمزي ليست سوى استعارات للحياة الإنسانية في أطوارها المختلفة. الربيع للطفولة وبدايات الوعي، الصيف لذروة الحضور، الخريف للانطفاء، أما الشتاء فهو لحظة بلوغ العالم أقصى درجات السكون استعدادًا لبدءٍ جديد.


بدا لي الأدب الروسي أكثر التصاقًا بفكرة الشتاء، وربما لهذا تشعرني قراءة الأعمال الروسية بصقيع بطرسبرغ حتى وأنا تحت درجات حرارة صيف تجاوزت الأربعين. وقد يكون في ذلك سبب فلسفي يتجاوز تقلبات الطقس، إذ إن الوجود الروسي نفسه كما يظهر في نصوص فيودور دوستويفسكي وأنطون تشيخوف ونيكولاي غوغول، قائم على التوتر بين القسوة والنجاة، وهذا أقرب إلى طبيعة موسم الشتاء.

في رواية المعطف الشهيرة لغوغول، يبدو البرد عنصرًا يحدد مصير الشخصية. بطل القصة أكاكي أكاكيفيتش باشماشكين، موظف نسّاخ يعمل في إدارة حكومية، حياته رتيبة، ومعطفه القديم متهالك. يقرر ادخار المال لاقتناء معطف جديد، وبعد أن يحصل عليه يُسرق أثناء عودته إلى منزله في ليلة قارسة البرد، فيمرض ويموت بعدها بقليل. وفي نهاية القصة يظهر طيفه في شوارع سانت بطرسبرغ لينتزع معاطف المارة كنوعٍ من الانتقام من المجتمع الذي تجاهله. لهذا يُعد العمل من أهم نصوص الواقعية الروسية، ورمزًا لتحليل البيروقراطية وقسوة المجتمع تجاه الفرد.

في الغرب، لم يكن الشتاء أقل حضورًا. كتب بول أوستر «ثلاثية نيويورك» في شتاء قاسٍ، وقال في أحد حواراته إن الكتابة في البرد تجعل الذهن أكثر صفاءً، كما لو أن الصقيع ينظف اللغة من الزوائد. يرى بعض الكتاب أن البرودة ظرف داخلي يعيد تركيب العلاقة بين الكاتب وجسده، وأن الشتاء يمنحهم فرصة للانكفاء نحو الذات، لأن الظلمة الطويلة والبرد يعيدان ضبط إيقاع الكتابة.

على النقيض رأى بودلير في الشتاء مرآةً للحزن الإنساني، وكتب في إحدى رسائله أن الثلج يشبه الروح حين تتجمد على سطح العالم. كان الشتاء في نظرهم مسرحًا داخليًا لحوارهم مع العزلة والوجود. تلك الحالة من الانكفاء الكوني التي تتجلى فينا كخمولٍ ظاهرٍ أو كصفاءٍ مفرطٍ يلامس الحافة. صفاء يشبه ما تحدث عنه نيتشه أن الفكر الحقيقي لا يولد في دفء الراحة أو في الزحام، إنما في صفاء الهواء البارد للمرتفعات حيث يختبر الإنسان وحدته وعلوه في آنٍ واحد. فالجليد عنده رمز للنقاء وللمسافة التي تفصل الفيلسوف عن دفء القطيع كما يسميه.

وعلى صعيد حياة الأدباء، تجسدت هذه الحالة بطرق مختلفة، وُلدت فرجينيا وولف في فصل بارد فوجدت في الشتاء استعارةً لانقسام الذات، فيما مات تولستوي في محطة قطار باردة بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة في نوفمبر 1910 ليختبر لحظة العزلة الأخيرة أمام العالم.

تفسر الميثولوجيا الإغريقية الشتاء كزمنٍ للفقد، لغياب الحبيبة والخصوبة، حين تنزل بيرسيفوني إلى العالم السفلي فتبكيها أمها. لذا كان الشتاء غيابًا مؤقتًا يعيد للتجدد معناه، وربما لهذا السبب ظل الأدب يحتفي به بوصفه نقطة الصفر التي يعود منها العالم للحياة.

موسم تأملٍ لا نهاية له، يضع الإنسان أمام هشاشته وضرورته في آنٍ واحد. زمن احتجاب الحياة، زمن ديميتر وبيرسيفوني الذي يعكس غياب البركة ثم عودة النماء. إنه الذاكرة الباردة التي تهيئ للدفء القادم.


توصية الظلال📖🎞️:

يربطني الشتاء بالعودة إلى الشاعرة الأمريكية إيميلي ديكنسون. ربما لأن عزلة الشتاء ولياليه الطويلة تعكس الانسحاب الذي عاشته داخل غرفتها في أَمهرست، حيث كتبت آلاف القصائد التي لم تُنشر إلا بعد وفاتها.

عاشت ديكنسون حياتها في صراع خفي بين رغبتها في التعبير وقيود الأسرة والمجتمع. كان والدها إدوارد ديكنسون العضو البارز في المجتمع المحلي، يرفض نشر شعرها بحكم موقعه الاجتماعي وثقافته المحافظة، ويرى أن نشر قصائد ابنته لا يتناسب مع صورة الأسرة، وكانت إيميلي مضطرة لمواجهة هذا الحاجز، سواء بالاحتفاظ بأوراقها أو مراسلة أصدقائها للتعديل والنشر بسرية. شكل هذا الرفض تحديًا فلسفيًا دفعها إلى صياغة شعرها بطريقة ذاتية، متحررة من الضوابط التقليدية للقصيدة، فكان الانعزال فرصة للإبداع الخالص بعيدًا عن أي تدخل خارجي.

قبل سنوات، أطلقت منصة Apple TV مسلسل Dickinson، الذي يعيد تصوير هذه التجربة الحياتية والشعرية بأسلوب معاصر يمزج بين الدراما والفكاهة والموسيقى الحديثة. المسلسل يقدم ديكنسون كرمز للحرية الفكرية والعبقرية، مستعرضًا صراعها مع والدها، انعزالها، ونضالها الداخلي الذي جعل من شعرها إرثًا خالدًا.

امتد الاهتمام بالشاعرة إلى الأدب المعاصر أيضًا، فكانت رواية «بيوت من ورق» لدومنيك فورتييه واحدة من الأعمال التي حملت سيرتها، لتصور حياتها من الطفولة حتى النضج، مركزة على انغماسها في الكتابة وكيف أصبح شعرها وسيلة لتسجيل الحياة نفسها.

«يتطلب الأمر زهرة برسيم ونحلة واحدة
‫لتتكون البراري
‫زهرة برسيم ونحلة، وأحلام يقظة
‫وستكفي أحلام اليقظة وحدها،
‫إذا كان النحل قليلًا».
- ‫إيميلي ديكنسون

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

الوحش الذي يشبهنا🧟♂️😟 فيلم فرانكشتاين 2025 عبير اليوسفي ١٢ نوفمبر ٢٠٢٥ بالتأكيد مر عليك منشور أو مشهد يتحدث عن الفيلم الجديد المقتبس من رواية فرانكشتاين، وربما شاهدت العمل فاندهشت من سطوة الصورة، ومن الأداء الذي جعل المخلوق أكثر إنسانية من صانعه. غير أن ما يجعل هذه الرواية متجددة ليس السينما التي أعادت إحياءها، لكنها الشرارة الأولى التي ولدت في ذهن فتاة في عام بلا صيف نتيجة انفجار بركاني غطى أوروبا بالغيوم والبرد. وفي بيتٍ صغيرٍ قرب بحيرة جنيف اجتمع بعض الشباب من الشعراء والفلاسفة وفتاة في...

عن الخيانة الجميلة🎞️🎬 The Godfather عبير اليوسفي ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥ لا تبدو الرواية قابلة للعبور بسهولة إلى الشاشة، ليس لأن اللغة أضيق من الصورة، لكن لأنها تُنتج عالمها في عزلة، في تلك المسافة بين الكاتب وقارئه. كل ما في الرواية يُبنى من داخل اللغة، من الإيقاع والسكوت، من الحضور الغائب للشخصيات، بينما الدراما تفعل العكس، تُعلن ما كان يُخفى، ولهذا فإن نقل الرواية إلى الدراما يعني إعادة خلقها من جديد. نُقلت رواية مئة عام من العزلة إلى الشاشة عبر مسلسل من إنتاج “نتفلكس”، في مغامرة طال انتظارها منذ...

بلطجة المثقفين🔍🔖 عبير اليوسفي ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥ من النادر أن يجتمع كاتبان في مقهى دون أن يختبئ في أحدهما ظل خصومةٍ ما، قديمة أو مؤجلة. فالتاريخ الأدبي منذ بداياته، كان مسرحًا مفتوحًا للعداوات المعلنة والخفية بين كُتّابه؛ كأن الإبداع لا يكتمل إلا في حضور خصمٍ ما، أو أن القلم لا يصفو إلا على حافة الغيرة. وفي زمن مضى كان الأدباء يتبادلون الهجاء والنقد اللاذع كما لو أن الكتابة ميدان صراع، وأن الجمال لا يُولد إلا من وسط العداء. في الأدب العربي لا يغيب عنا صدامات العقاد وطه حسين، وما تركته من جروح في...