عودة فرانكشتاين


الوحش الذي يشبهنا🧟‍♂️😟

Author

عبير اليوسفي

بالتأكيد مر عليك منشور أو مشهد يتحدث عن الفيلم الجديد المقتبس من رواية فرانكشتاين، وربما شاهدت العمل فاندهشت من سطوة الصورة، ومن الأداء الذي جعل المخلوق أكثر إنسانية من صانعه. غير أن ما يجعل هذه الرواية متجددة ليس السينما التي أعادت إحياءها، لكنها الشرارة الأولى التي ولدت في ذهن فتاة في عام بلا صيف نتيجة انفجار بركاني غطى أوروبا بالغيوم والبرد. وفي بيتٍ صغيرٍ قرب بحيرة جنيف اجتمع بعض الشباب من الشعراء والفلاسفة وفتاة في التاسعة عشرة تُدعى ماري وولستونكرافت شيلي. كانوا يبحثون عن تسلية في العزلة، فاقترح أحدهم أن يكتب كل واحدٍ منهم قصة رعب. في تلك الليلة كما روت ماري لاحقًا، رأت في منامها جسدًا ممددًا تهب فيه الحياة من آلةٍ كهربائية. استيقظت على رعشة ولادة فكرة، ومن هنا بدأت الأسطورة.

تقول ماري إنها شعرت كمن تُستدعى لكتابة شيءٍ أكبر منها. لم تكن تسعى لقصص الأشباح، لكن لشيءٍ أشد رعبًا هو لحظة الخلق. كتبت فرانكشتاين في زمنٍ لم يكن يسمح للمرأة بالخوض في موضوعات العلم والموت، ولا بالاقتراب من منطقة الآلهة. كانت الكتابة نفسها فعل اقتحام، نشرتها دون اسمها تاركة العالم يظن أن الكاتب رجل، حتى جاء النجاح واكتشف الجميع أن هذا الرعب الفلسفي كتبته فتاة. بعض النقاد قالوا إن الرواية غامضة ومريضة، وآخرون اتهموها بالجنون، لكن النص ظل يتقدم يلتهمهم ببطء.

من هو الوحش في القصة؟


في البداية، قرأها الجمهور بوصفها رواية رعب قوطية؛ لكنها مع الزمن كشفت عن فكر فلسفي لم يكن الناس يدركونه، أن الوحش هو ما نهرب من تحمل مسؤوليته.

كانت شخصية فيكتور فرانكشتاين الإنسان في ذروة غروره، حين يتجاوز خوفه من الموت فيتحول إلى صورةٍ صغيرة من الإله، لكنه لا يحتمل ثمن ذلك. وفي المقابل، المخلوق ليس مسخًا كما تصوره الأفلام، هو كائنٌ بريء يطالب بحقه في المعنى, وكل جريمته أنه وُلد. كان يسأل صانعه لماذا منحتني الحياة ثم أنكرتها عليّ؟. وهذا ما يجعله نصًا خالدًا هو أنه تجاوز فكرة الوحش بوصفها كائنًا ماديًا، ليجعل منها استعارة عن الإنسان حين يغترب عن ذاته. المخلوق الذي لا اسم له، الذي لا يملك ماضيًا ولا نسبًا، هو الوجه الآخر للوعي الوجودي، وهنا تكمن العبقرية.

يسائلنا العمل عن معنى أن نبتكر، أن نؤثر. وكل فكرة نرميها في العالم تصبح كائنًا له حياة، ووجه، وتاريخ، وقد تعود إلينا مطالبة بالاعتراف أو الاعتذار. هي المأساة الكامنة في كل فعل إبداعي، أن المبدع في لحظةٍ ما يدرك أن ما خلقه لم يعد ملكه.

لكن من أين جاءت كل هذه الجرأة؟ كيف استطاعت امرأة في القرن التاسع عشر أن تكتب عن الجسد والموت والعلم والخلق. كيف اخترقت المحرم دون أن تعلن الحرب؟

كانت ماري شيلي ابنة واحدة من أجرأ النساء في التاريخ، الكاتبة الحقوقية ماري وولستونكرافت التي لقبت بأول نسوية في بريطانيا، وصاحبة كتاب دفاع عن حقوق المرأة. من أوائل من تحدين البنية الذكورية للفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر. رأت أن دونية النساء هي نتيجة حرمانهن من التعليم، ودافعت في كتابها دفاع عن حقوق المرأة عن المساواة العقلية والأخلاقية بين الجنسين. طالبت بأن تُعامل النساء كمواطنات كاملات الحقوق. بجرأتها تلك وضعت الأساس لما سيُعرف لاحقًا بالفكر النسوي الحديث، وكانت ماري الابنة استمرارًا لذلك الإرث. ماتت أمها بعد أيامٍ من ولادتها، فكبرت ماري يتيمة الحنان لكنها وريثة الفكر. أما والدها فهو الفيلسوف التنويري ويليام غودوين، الذي غرس فيها حس التمرد والعقلانية معًا. نشأت في بيتٍ تعصف فيه الأفكار، حيث الحرية نمط عيش، وكان الأدب عندها امتدادًا للفكر.


منذ مراهقتها، كانت ترافق والدها في جلساته الفكرية، وتقرأ للفلاسفة والكتاب المحظورين على النساء في ذلك الوقت، كانت تتعلم كيف تفكر بلا وصاية. حين التقت بالشاعر بيرسي بيش شيلي أحد أكثر الأصوات الشعرية تمردًا في القرن التاسع عشر، جمع بين الحلم الثوري والرؤية الفلسفية في قصائد أصبحت من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي. التقت به ماري وهي في السابعة عشرة، وهربت معه إلى أوروبا رغم زواجه، متحديةً الأعراف والمجتمع، قبل أن يتزوجا رسميًا بعد انتحار زوجته الأولى. عاشا حياة قلقة بين الشعر والمنفى والفكر، لكن علاقتهما كانت تشتعل بنفس النار التي كتب عنها كلاهما. وفي عام 1822 غرق شيلي في خليج ليريشي بإيطاليا وهو في التاسعة والعشرين، وعندما أُحرقت جثته لم يذُب قلبه بالكامل، فانتُزع من النار وسُلم إلى ماري التي احتفظت به ملفوفًا بالحرير في مكتبها حتى وفاتها.

قبل كتابتها للرواية، كانت قد فقدت طفلها الأول، تجربة تركت فيها أثرًا لا يُمحى. لذلك بدت فرانكشتاين وكأنها محاولة لكتابة هذا الفقد بلغة الخلق، كيف يمكن للإنسان أن يمنح الحياة وهو لم يتصالح بعد مع الموت؟


كتبت ماري موقفًا من العالم الذي أراد أن يحصر المرأة في خانة العاطفة. في زمن كان العقل حكرًا على الرجال. وجعلت الرجل هو من يولد لتكشف قسوته حين يفعل ذلك بلا رحمة، بلا أمومة، بلا حنانٍ يصون الحياة التي صنعها. إن إعادة فرانكشتاين اليوم هي عودة إلى الوعي الأخلاقي للخلق الإنساني في عصر يصنع فيه الإنسان آلات تتكلم عنه أكثر مما يتكلم عن نفسه، تغدو الرواية نبوءة عن مستقبلٍ نعيشه بالفعل حيث المخلوق الرقمي يراقب خالقه، ويتعلم منه، وربما في يومٍ ما يرفض سلطته. وهنا تتحول القصة إلى مرآةٍ فلسفية لما نعيشه، الإنسان الذي صنع عقلًا خارج جسده، وفقد السيطرة على الاثنين.


خلف كل هذا، تظل الرواية أيضًا نصًا نسويًا. امرأة وحيدة كتبت عن رجلٍ يخلق دون امرأة، فكانت النتيجة كائنًا ناقصًا يبحث عن الحنان الذي حُرم منه. وكأنها تقول للعالم الذكوري من حولها إن الإبداع بلا عاطفة يولد التشوه، والعلم بلا حس إنساني يتحول إلى قسوة. وهنا تتحول الرواية من نقدٍ للعلم إلى نقدٍ للذكورة حين تتوهم أنها تستطيع استبدال الأمومة بالمعمل.


في نهاية الرواية، يهرب المخلوق إلى الجليد، إلى نفيٍ يشبه الغياب الأبدي. لكنه يتركنا أمام سؤال من الذي ارتكب الخطيئة الحقيقية؟ الذي خلق؟ أم الذي وُلد بلا إرادته؟

ربما لهذا لا تموت فرانكشتاين، لأنها عن الإنسان حين يرى ظله في وجهٍ آخر ويخاف أن يعترف به. نحن جميعًا نصنع أشكالنا الصغيرة في الكلمات، في الأفكار، في العلاقات ثم نرتعب حين تبدأ بالعيش خارجنا.

قد تهمس لنا ماري، احذر مما تخلقه، فقد يكون مرآتك التي لن تحتمل النظر إليها.


video preview

ظلال

ظلال نشرة ثقافية تسعى لمشاركة موضوعات الأدب والفنون بأسلوب متجدد تكتب في صنعاء، وتصلك كل أربعاء لتغمرك بظلال من التأملات في الأدب.

Read more from ظلال

رجعت الشتوية❄️⛄️ شتاء كلود مونيه عبير اليوسفي ٥ نوفمبر ٢٠٢٥ لابد أن الشتاء قد أعلن عن قدومه حيث تعيش، سواء بارتداء الصوف كما أفعل أنا، أو ببرودةٍ خفيفة تميل إلى اعتدال أجواء المساء. وما أحب ملامح الشتاء وما أقساها في آنٍ، تلك التي تتجلى في مواجهة انخفاض درجات الحرارة كما في السبات الفكري، أو ما تسميه صديقتي بـ«فقدان الشغف الشتوي». حتى الكتب تلمس تبدل الفصول داخلها. فليس الأمر مجرد إعدادٍ لقائمة قراءة موسمية كما يفعل القرّاء المتحمسون، إذ لا يُستدعى الشتاء في الأدب كخلفية مناخية فقط، لكن يُمنح...

عن الخيانة الجميلة🎞️🎬 The Godfather عبير اليوسفي ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥ لا تبدو الرواية قابلة للعبور بسهولة إلى الشاشة، ليس لأن اللغة أضيق من الصورة، لكن لأنها تُنتج عالمها في عزلة، في تلك المسافة بين الكاتب وقارئه. كل ما في الرواية يُبنى من داخل اللغة، من الإيقاع والسكوت، من الحضور الغائب للشخصيات، بينما الدراما تفعل العكس، تُعلن ما كان يُخفى، ولهذا فإن نقل الرواية إلى الدراما يعني إعادة خلقها من جديد. نُقلت رواية مئة عام من العزلة إلى الشاشة عبر مسلسل من إنتاج “نتفلكس”، في مغامرة طال انتظارها منذ...

بلطجة المثقفين🔍🔖 عبير اليوسفي ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥ من النادر أن يجتمع كاتبان في مقهى دون أن يختبئ في أحدهما ظل خصومةٍ ما، قديمة أو مؤجلة. فالتاريخ الأدبي منذ بداياته، كان مسرحًا مفتوحًا للعداوات المعلنة والخفية بين كُتّابه؛ كأن الإبداع لا يكتمل إلا في حضور خصمٍ ما، أو أن القلم لا يصفو إلا على حافة الغيرة. وفي زمن مضى كان الأدباء يتبادلون الهجاء والنقد اللاذع كما لو أن الكتابة ميدان صراع، وأن الجمال لا يُولد إلا من وسط العداء. في الأدب العربي لا يغيب عنا صدامات العقاد وطه حسين، وما تركته من جروح في...